في خطوة تعبّر عن مزيج من الانتقائية والازدواجية، قررت المفوضية الأوروبية إدراج الجزائر ضمن قائمتها المحدّثة للدول “عالية المخاطر” في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ورغم محاولات تغليف القرار بغلاف تقني محض، فإن توقيته وسياقه لا يتركان مجالًا للشك: المسألة أبعد بكثير من معايير الامتثال، وتدخل مباشرة في خانة الضغوط السياسية المقنّعة.
تُسوّق القائمة الأوروبية باعتبارها أداة فنية لمواءمة التشريعات المالية مع توصيات مجموعة العمل المالي (FATF)، إلا أن المتابعين يدركون أن هذه القائمة تحوّلت إلى وسيلة لتمرير الرسائل الجيوسياسية المغلّفة. فالقرارات لم تعد تُبنى على تقارير محايدة، بل باتت تتبع حسابات سياسية واقتصادية بحتة، حيث يُكافَأ من يلتزم بخط بروكسل – واشنطن، ويُعاقَب من يخرج عنه.
إدراج الجزائر في هذا التوقيت لا يمكن عزله عن مواقفها السيادية والمستقلة، خاصة تلك المتعلقة بالملفات الدولية الحساسة: موقفها الحازم من الحرب في أوكرانيا، دعمها الثابت للقضية الفلسطينية خارج مزايدات التطبيع، وتحالفاتها المتوازنة مع قوى كبرى مثل روسيا والصين. هذه المواقف التي أزعجت مراكز النفوذ في الغرب، تحوّلت إلى تهمة سياسية تُترجم على هيئة قرار تقني ظاهريًا، عقابي باطنًا.
ويكفي التذكير بأن الاتحاد الأوروبي، في تناقض صارخ، تغاضى عن اختلالات جوهرية في دول شريكة سياسيًا، في حين لم يتردد في إدراج الجزائر رغم الإصلاحات البنيوية الجارية فيها. ما يرسّخ الانطباع بأن ما يُطلب من الجزائر ليس فقط تحسين آليات الرقابة المالية، بل أيضًا الانحناء لشروط “الامتثال الجيوسياسي الأوروبي”، بما يحوّل أدوات محاربة غسل الأموال إلى أدوات لفرض الوصاية.
صيانة الجيوبوليتيك: مغازلة الإمارات
في تناقض لافت، جاء نفس القرار الأوروبي متضمنًا سحب اسم الإمارات العربية المتحدة من اللائحة الرمادية، بعد ثلاث سنوات فقط من إدراجها، رغم استمرار التحفظات الدولية على بعض الجوانب المرتبطة بالملكية الفعلية، ونشاط الشركات الوهمية، والرقابة على العقارات.
القرار لا يثير الجدل من حيث الاعتراف بتحسينات فعلية في بعض الملفات الإماراتية، بل من حيث سرعة الاستجابة الأوروبية للإصلاحات الإماراتية، مقابل تجاهل إصلاحات أخرى أقل استعراضية. هنا يظهر التفاوت في معايير التقييم:
-
هل تتم مكافأة الدول على أساس القوة الاقتصادية والاستثمارية؟
-
هل يُغض الطرف عن ثغرات مقابل شراكات استراتيجية في ملفات مثل الطاقة، والسلاح، والتطبيع الإقليمي؟
بهذا المعنى، تتحول القائمة من أداة رقابية إلى وسيلة ترتيب جيوسياسي غير معلن، حيث لا تُقاس “الخطورة” فقط بمؤشرات FATF، بل بحسابات مراكز النفوذ الأوروبية.
قرارات “السحب”: خلف الستار بين التقنية والضغط السياسي
على الورق، تزعم المفوضية الأوروبية أن قرارها بسحب دول مثل جبل طارق، بنما، باربادوس، جامايكا، الفلبين، السنغال، أوغندا والإمارات من قائمة الدول “عالية الخطورة” يستند إلى تقييمات فنية دقيقة بتوافق مع معايير مجموعة العمل المالي (FATF) وبروتوكولات المادة 9 من التوجيه الأوروبي الرابع (AMLD IV). وقد أتى في نسخة 14 مارس 2024 من التنظيم المفوض أن هذه الدول “لم تعد تُظهر نقائص استراتيجية كبيرة” بعد تنفيذ خطط إصلاح finance.ec.europa.eu+1finance.ec.europa.eu+1.
لكن، خلف هذه الشعارات الفنية يكمن تلاعب سياسي واضح:
-
جبل طارق، رغم كونه ملاذًا ضريبيًا ومصدرًا لنشاطات غسل أموال، تم إلغاء تصنيفه، ليس لأنه أصلح منظومته بصدق، بل لأن أوروبا لا تريد مزيدًا من الاحتكاك مع لندن .
-
بنما، المشهورة بـ”وثائق بنما”، خرجت من القائمة بعد أن أعلنت بروكسل أن “مصادر جديدة” بيّنت إصلاحات، لكنه في الحقيقة قرار يُراد به إبقاء مصالح مالية دون عراقيل .
-
الإمارات، التي غادرت القائمة بعد أشهر من الظلال الفنية، كانت محور هذا التغيير نتيجة الاتفاقات السياسية والاقتصادية، رغم أن تحديات ملموسة مثل الرقابة على العقارات لم تُحل بعد .
نظر إلى إدراج الجزائر كصفعة سياسية تتجاوز حدود الاعتبارات التقنية، إذ يُفهم منها أن الجُرأة على تبني سياسة خارجية مستقلة ومتحررة من الإملاءات الغربية قد تُكلّف ثمنًا سياسيًا وماليًا في آنٍ واحد. في هذا القرار، يختلط الضغط الدبلوماسي بالأدوات المالية، ويتحوّل ملف “مكافحة غسل الأموال” إلى وسيلة ضغط ناعمة تُستخدم لموازنة النفوذ الجيوسياسي أكثر من ضمان الالتزام بالمعايير.
الرسالة واضحة: الاستقلال السياسي قد يُترجم إلى عقوبات مالية غير معلنة، والمعايير التقنية تُحرّك أحيانًا على وقع المصالح والنفوذ، لا على أساس موضوعي ثابت. وبذلك، يصبح النظام المالي الأوروبي أداة فرز وانتقاء، لا يساوي بين الدول، بل يُعيد ترسيم خطوط الطاعة والممانعة تحت غطاء تنظيمي.
الجزائر ليست اليوم تحت الضوء لأنها الحلقة الأضعف، بل لأنها تجرؤ على السير في طريقها الخاص. قد يكون هذا هو السبب الحقيقي وراء هذا التصنيف الظاهري التقني، والمضمر سياسيًا.