بين فرض ورفض، 22 عامًا من المفاوضات والصدام

منذ بداية الألفية الثالثة، تحوّلت العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران إلى إحدى أعقد القضايا الجيوسياسية في العالم، حيث امتزجت فيها لغة الدبلوماسية بمفردات التهديد والتصعيد. فعلى مدار أكثر من عقدين، تقاطعت المفاوضات النووية مع التحولات الإقليمية، والعقوبات الاقتصادية، واشتداد التوترات العسكرية، حتى بات الملف النووي الإيراني مرآة للصراع العالمي على النفوذ.

هذا الملف الصحفي يُقدّم قراءة تحليلية معمقة لأبرز المحطات التفاوضية من عام 2003 وحتى يونيو 2025، مع التركيز على الخلفيات السياسية والرهانات الأمنية التي رسمت ملامح الصدام المستمر، ويستعرض الخيارات المطروحة في ظل انسداد الأفق التفاوضي، وتصاعد حدة الصدام إلى مستوى مواجهة عسكرية مفتوحة تهدد بتحول إقليمي شامل.

الفصل الأول: البدايات – التلميحات الأولى للحوار (2003–2012)

مع اجتياح الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 وسقوط نظام صدام حسين، تغيّرت خارطة التهديدات الأمنية بالنسبة لطهران بشكل دراماتيكي. أصبحت إيران محاطة فعليًا بالقوات الأمريكية من الشرق (في أفغانستان منذ 2001)، ومن الغرب (في العراق ابتداء من مارس 2003)، في لحظة جيواستراتيجية نادرة أثارت القلق في دوائر صنع القرار الإيراني، ولكنها فتحت أيضًا نافذة صغيرة للتقارب الدبلوماسي غير المسبوق مع “الشيطان الأكبر”.

في هذا السياق المتوتر، وبعقلية دفاعية ولكن براغماتية، طرحت طهران عبر الوساطة السويسرية ما عُرف لاحقًا بـ”صفقة 2003″، وهي مبادرة تفاوضية شاملة تضمّنت استعدادًا لتجميد البرنامج النووي عند حدود معينة، والتعاون في استقرار العراق ما بعد الغزو، وممارسة ضغوط على الفصائل الفلسطينية المسلحة (خصوصًا حماس والجهاد الإسلامي)، وحتى الدخول في مناقشات مبدئية حول مستقبل العلاقة مع إسرائيل، في مقابل ضمانات أمنية واضحة، ورفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة على إيران.

لكن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، التي كانت آنذاك تؤمن بمبدأ الحسم العسكري والردع الكامل، نظرت إلى إيران من عدسة “محور الشر” التي وردت في خطاب بوش الشهير سنة 2002، ورفضت العرض دون نقاش. لم تكتف واشنطن برفض الصفقة، بل تجاهلت المبادرة بشكل شبه كامل، واعتبرتها نوعًا من المناورة التكتيكية لا أكثر. هكذا، ضاعت واحدة من أندر فرص التفاهم المبكر بين الجانبين، وأُغلقت أبواب الحوار قبل أن تُفتح فعليًا.

2006–2012: عزلة نووية وتصلّب سياسي

في عام 2006، تغيّر المشهد بشكل كبير بعد الكشف عن منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم، وهو ما فجّر موجة جديدة من القلق العالمي، وأعطى ذريعة قوية لمجلس الأمن لفرض أولى العقوبات الأممية القاسية على طهران. هذه العقوبات توسعت لاحقًا لتشمل:

  • حظر تصدير المعدات والتكنولوجيا النووية.

  • قيود على التعاملات البنكية والتحويلات المالية الدولية.

  • تجميد أصول شركات ومؤسسات مرتبطة بالحرس الثوري.

  • منع السفر وتقييد حرية الحركة لعلماء ومسؤولين إيرانيين.

بدأت في تلك الفترة مفاوضات رسمية بين إيران ومجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين، وألمانيا). لكن سرعان ما اصطدمت هذه المفاوضات بجدار صلب بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا للجمهورية الإسلامية عام 2005.

في عهد نجاد، تغيرت لهجة إيران من التلميحات التفاوضية إلى المواجهة القوية. تمسّك الرجل بـ”الحق السيادي في التخصيب”، ورفض أي قيود أو مساومات، معتبرًا أن البرنامج النووي يمثل “رمزًا للكرامة الإيرانية”. كما أثار جدلًا دوليًا واسعًا بإنكار المحرقة، ما زاد من عزلة إيران السياسية، وشدّد الموقف الغربي، وعرقل أي مسار جاد نحو تسوية شاملة.

في هذه المرحلة، أصبحت إيران أكثر تقوقعًا، بينما ازدادت وتيرة العقوبات، وتعمقت القطيعة مع واشنطن، وسط تفجّر الأوضاع في العراق ولبنان وغزة، ما عزز التوجس من دور إيران الإقليمي، وأفشل كل محاولات إعادة الحياة إلى المسار التفاوضي.

 الاتفاق النووي التاريخي (JCPOA) – ذروة الدبلوماسية (2013–2015)

  • بعد أكثر من عقد من الشكوك المتبادلة والمواجهة غير المباشرة، شهد عام 2013 نقطة تحول مفصلية في مسار العلاقات الإيرانية–الأمريكية. وصول حسن روحاني إلى سدة الرئاسة الإيرانية شكّل لحظة سياسية نادرة. ففي ظل عزلة خانقة، وانكماش اقتصادي خطير نتيجة العقوبات متعددة الطبقات، دفع روحاني، الذي حمل خطاب الانفتاح والاعتدال، نحو كسر الجمود مع الغرب عبر بوابة البرنامج النووي.

    في المقابل، كانت إدارة باراك أوباما تبحث عن إنجاز دبلوماسي يُنهي أطول أزمة نووية غير محسومة في العالم. حذرًا من الانجرار إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، فضّل البيت الأبيض خيار التفاوض المدروس. وهكذا، تحركت قنوات خلفية بين الطرفين، قادتها عُمان بشكل سري، قبل أن تتحول إلى مفاوضات علنية انطلقت رسميًا في جنيف أواخر 2013.

    مفاوضات مضنية ومرحلة فيينا (2014–2015)

    انطلقت جولات التفاوض الرسمية بين إيران ومجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين، وألمانيا) على خلفية تفاهمات تمهيدية وضعت خطوطًا أولية. لكنها سرعان ما دخلت في تفاصيل تقنية وسياسية معقدة، أبرزها:

    • الحد من أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم.

    • تقليص كمية ونسبة تخصيب اليورانيوم المخزنة لدى إيران.

    • آليات التفتيش المفاجئ والمراقبة الطويلة الأمد.

    • الجدول الزمني لرفع العقوبات وطرق التحقق منه.

    • مستقبل البحث والتطوير في البرنامج النووي الإيراني.

    رغم التقدم البطيء، اتسمت تلك المرحلة بجو من الجدية غير المسبوقة. لعبت الدبلوماسية الأمريكية بقيادة جون كيري، ونظيرته الإيرانية بقيادة محمد جواد ظريف، دورًا محوريًا في تجاوز العقبات، خاصة بعد ضغوط روسية وألمانية لعدم انهيار المسار.

    يوليو 2015: التوقيع على الاتفاق النووي (JCPOA)

    في 14 يوليو 2015، أعلنت الأطراف الستة التوصل إلى اتفاق نهائي يُعرف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وهي وثيقة من أكثر من 100 صفحة تغطي أدق التفاصيل الفنية والسياسية، يمكن تلخيص أهم ما جاء فيها كما يلي:

    • تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي إلى أقل من الثلث، مع تقييد استخدامها في منشآت معينة فقط.

    • خفض مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق 98%، والالتزام بسقف تخصيب لا يتجاوز 3.67%.

    • تعليق منشأة فوردو وتحويلها إلى مركز أبحاث نووي سلمي.

    • فرض نظام تفتيش شامل وغير مسبوق من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يمتد لعقود ويشمل مواقع عسكرية مشمولة جزئيًا.

    • رفع تدريجي للعقوبات الأوروبية والأمريكية والدولية، بما يشمل الإفراج عن أصول إيرانية مجمدة، وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية.

    اتفاق الفرص والشكوك

    أثار الاتفاق ترحيبًا واسعًا من قِبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، واعتُبر في حينه أكبر انتصار للدبلوماسية متعددة الأطراف منذ عقود. لكنه أيضًا زرع بذور صراعات لاحقة. ففي الداخل الإيراني، واجه روحاني انتقادات عنيفة من التيار المحافظ الذي اتهمه بالتفريط في “الحق السيادي النووي”، بينما حذر المرشد الأعلى علنًا من “الاختراق الثقافي والاقتصادي الغربي”. أما في الولايات المتحدة، فقد وجد الاتفاق معارضة شرسة من الجمهوريين في الكونغرس ومن اللوبي المؤيد لإسرائيل، الذي رأى في الاتفاق تفويضًا غير مباشر لطموحات إيران التوسعية. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، فاعتبره “خطأ تاريخيًا سيفضي إلى سباق تسلح نووي في المنطقة”.

    وهكذا، رغم ما بدا أنه إنجاز دبلوماسي كبير، لم يكن الاتفاق سوى هدنة مؤقتة في صراع أعمق، سرعان ما انفجر مجددًا بعد ثلاث سنوات، حين قررت إدارة ترامب الانسحاب منه.

الانسحاب الأمريكي وإعادة فرض العقوبات (2016–2020)

بين عامي 2016 و2017، التزمت إيران بشكل دقيق ببنود الاتفاق النووي (JCPOA)، كما أكدت ذلك أكثر من عشرة تقارير متتالية صادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقد شكّل ذلك مرحلة قصيرة من الانفراج، أتاحت لطهران استعادة جزء من تجارتها النفطية، وتحقيق نمو اقتصادي جزئي، وفتح قنوات مع شركات أوروبية، خصوصًا في قطاعي الطاقة والنقل. لكن المكاسب لم تكن بمستوى التطلعات الإيرانية، خاصة في ظل بقاء العقوبات الأمريكية غير النووية، وتردّد المؤسسات المالية الغربية في التعامل مع إيران خشية العقوبات الثانوية.

ثم جاء التحول الحاد في مايو 2018، عندما قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب الأحادي من الاتفاق، واصفًا إياه بأنه “كارثة دبلوماسية”، لأنه لم يتطرق إلى برنامج إيران الصاروخي أو تدخلاتها الإقليمية. لم تكتف واشنطن بالانسحاب، بل أطلقت حملة شاملة عُرفت بـ”الضغط الأقصى”، هدفت إلى خنق الاقتصاد الإيراني وعزله دبلوماسيًا، ودفعه للعودة إلى طاولة المفاوضات بشروط أمريكية أكثر تشددًا.

تمحورت هذه الحملة حول إعادة فرض العقوبات النووية السابقة، مع إضافة عشرات العقوبات الجديدة التي شملت البنك المركزي، قطاع البتروكيماويات، الناقلات البحرية، والتكنولوجيا. في غضون أشهر، انهار الريال الإيراني أمام الدولار، وبلغ التضخم مستويات غير مسبوقة، وشهدت البلاد احتجاجات شعبية واسعة بسبب تدهور الأوضاع المعيشية. أصبح الاقتصاد الإيراني، المعتمد بنسبة كبيرة على صادرات النفط، رهينة مباشرة للقرار الأمريكي.

رغم ذلك، تبنّت القيادة الإيرانية في البداية ما سُمي بسياسة “الصبر الاستراتيجي”، وأعلنت أنها ستمنح الأطراف الأوروبية فرصة لإنقاذ الاتفاق عبر إيجاد آلية مالية بديلة (INSTEX). غير أن هذه الآلية ظلت رمزية، ولم تنجح في توفير الحد الأدنى من التبادل التجاري الذي تحتاجه إيران، مما دفع طهران إلى تغيير استراتيجيتها.

في مايو 2019، بدأت إيران رسمياً تقليص التزاماتها بموجب الاتفاق النووي على مراحل. شملت هذه الخطوات تجاوز الحد الأقصى المسموح به من مخزون اليورانيوم، رفع مستوى التخصيب إلى ما فوق 3.67%، وتشغيل أجهزة طرد مركزي من الجيل المتقدم في منشآت نطنز وفوردو. كل خطوة كانت بمثابة رسالة سياسية مفادها أن كلفة العقوبات ستقابلها تصعيد نووي تدريجي، فيما تمسّكت إيران بمبدأ “القابلية للعودة” في حال رُفعت العقوبات.

لكن التصعيد بلغ مرحلة جديدة مع اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020 بضربة أمريكية قرب مطار بغداد. وردّت طهران بقصف صاروخي على قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق، وهو ما أضاف بعدًا عسكريًا إلى الأزمة النووية، وأعاد العلاقة إلى نقطة مواجهة مفتوحة، حتى وإن كانت محدودة. منذ تلك اللحظة، تراجع الحديث عن الدبلوماسية، وبدأت الاستعدادات لمرحلة ما بعد الاتفاق فعليًا.

محاولات العودة إلى طاولة المفاوضات (2021–2023)

مع دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021، بعثت إدارته برسائل واضحة تفيد باستعداده لإحياء الاتفاق النووي، وطي صفحة “الضغط الأقصى” التي ميزت عهد ترامب. اعتمد بايدن على مقاربة تقوم على مبدأ “الامتثال مقابل الامتثال”، أي أن ترفع واشنطن العقوبات تدريجياً مقابل عودة إيران إلى الالتزام الكامل ببنود الاتفاق.

في أبريل 2021، انطلقت جولات فيينا غير المباشرة، حيث لعبت الأطراف الأوروبية دور الوسيط بين الوفدين الإيراني والأمريكي. سرعان ما تبلورت خطوط التفاوض: إيران طالبت أولاً برفع كل العقوبات دفعة واحدة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالحرس الثوري، في حين أصرت واشنطن على التحقق من التزامات طهران قبل تقديم أي تنازل. رغم التقدم الأولي، ظلت فجوة الثقة كبيرة، خصوصاً بعد أن غيّرت إيران فريقها المفاوض مع وصول الرئيس إبراهيم رئيسي إلى الحكم في منتصف 2021، واعتماد خط أكثر صرامة تجاه الغرب.

عام 2022 شهد تصاعدًا في التوتر، إذ أحرزت المفاوضات بعض التقدم، لكن سرعان ما تعثّرت مجددًا عند نقاط شائكة: إيران أصرت على ضمانات قانونية تمنع انسحاب أي إدارة أمريكية مستقبلية من الاتفاق، فيما رفضت واشنطن تقديم هذا التعهّد بسبب تعقيدات نظامها الداخلي. إلى جانب ذلك، تمسّكت طهران بشطب الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، وهو ما قوبل برفض أمريكي قاطع خشية ردود فعل الكونغرس وحلفاء واشنطن في المنطقة.

في عام 2023، دخل المسار التفاوضي مرحلة ركود حاد. جولة فيينا التاسعة فشلت فشلًا ذريعًا في إحراز أي تقدم. تزامن ذلك مع احتجاجات داخلية في إيران، إثر مقتل الشابة مهسا أميني، ما وضع القيادة الإيرانية تحت ضغوط داخلية مكثفة. على الجانب الأمريكي، أصبحت إدارة بايدن أكثر حذرًا في تقديم أي تنازل وسط أجواء سياسية مشحونة في الداخل ومع اقتراب انتخابات التجديد النصفي.

في الأثناء، كانت إيران توسّع بهدوء قدراتها النووية: ارتفعت نسبة التخصيب إلى 60%، وازدادت قدرة الطرد المركزي، ما رفع تقديرات أجهزة الاستخبارات بأن طهران أصبحت على بُعد أسابيع فقط من إنتاج مادة كافية لسلاح نووي، إن قررت ذلك. في ظل هذه التطورات، انهارت الآمال في إحياء الاتفاق، وتحولت فيينا من منصة تفاوض إلى ذكرى دبلوماسية باهتة، في وقت أصبح فيه التصعيد العسكري أكثر حضورًا من أي وقت مضى.

 التصعيد الإقليمي والشلل الدبلوماسي (2024)

مثّل عام 2024 نقطة انعطاف خطيرة في العلاقات الإيرانية الأمريكية، بعد أن تلاشت آمال العودة إلى الاتفاق النووي، وحلّ محلها مناخ من التصعيد والانفجارات الرمزية والميدانية. بدأ التصعيد بتكثيف الهجمات التي طالت منشآت نووية إيرانية بشكل متزامن، أبرزها مفاعل نطنز في أبريل، والذي تعرض لأضرار كبيرة في حادثة نسبتها طهران مباشرة إلى الكيان الإسرائيلي، معتبرة إياها “عملاً تخريبيًا ممنهجًا” يستهدف إحباط أي إمكانية للعودة إلى المسار الدبلوماسي.

لم تقتصر الهجمات على البنية التحتية النووية، بل طالت شخصيات علمية بارزة في البرنامج النووي الإيراني، كان من بينها اغتيال خبير بارز في تخصيب اليورانيوم في ظروف غامضة قرب طهران. هذه العمليات النوعية زادت من التوتر داخل النخبة السياسية الإيرانية، التي اعتبرت أن صمت المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة، يرقى إلى تواطؤ مباشر.

في المقابل، ردّت إيران بحزم على الصعيد النووي والسياسي والعسكري. قررت السلطات تعليق التعاون التقني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك إيقاف الكاميرات ورفض عمليات التفتيش المفاجئة. كما رفعت مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 60%، وهو ما أعاد المخاوف الغربية بشأن قرب إيران من مستوى الاستخدام العسكري.

على الساحة الإقليمية، كثّف الحرس الثوري الإيراني من انتشاره في كل من سوريا والعراق، وفعّل شبكات حلفائه المحليين، ما زاد من احتمالات اندلاع مواجهات بالوكالة. تزامن ذلك مع مناورات بحرية مكثفة في مضيق هرمز، ورسائل صاروخية غير مباشرة عبر جماعات حليفة في اليمن ولبنان، كرد على ما وصفته طهران بـ”العدوان المزدوج” من قبل الالكيان إسرائيلي والولايات المتحدة.

رغم محاولات التهدئة التي قادتها كل من سلطنة عمان وقطر، والتي استضافت لقاءات غير مباشرة مطوّلة، إلا أن الطرفين أظهرا تصلبًا غير مسبوق في مواقفهما. واشنطن ربطت أي تقدم بشروط إضافية تتعلق بالصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي، في حين أصرّت طهران على ضرورة رفع العقوبات قبل أي التزام جديد، معتبرة أنها دفعت الثمن مرتين: مرة بالامتثال، ومرة بالغدر.

مع نهاية عام 2024، كانت كل المؤشرات تشير إلى خروج المسار النووي من إطار التفاوض، ودخوله مرحلة التجاذب بالقوة. الكيان الإسرائيلي كثّف من استعداداتها العسكرية، وأعلنت مرارًا أنها “لن تسمح لإيران بالاقتراب من القنبلة النووية”. من جهتها، رفعت إيران حالة التأهب على الحدود الغربية والجنوبية، وهددت برد مباشر على أي ضربة جديدة.

هكذا، تحوّلت سنة 2024 من عام الفرصة الأخيرة للدبلوماسية، إلى عام الاصطدام الاستراتيجي والانزلاق نحو مواجهات مفتوحة، ما مهّد فعليًا لانفجار أزمة 2025.

جولة 2025 – “الصفقة التي رفضتها طهران”

مع اقتراب منتصف عام 2025، كانت المؤشرات كلها تدل على أن الأزمة النووية الإيرانية بلغت ذروتها، ليس فقط من حيث التصعيد العسكري، بل أيضًا من حيث الانغلاق السياسي والدبلوماسي. فالعام بدأ بسلسلة من الهجمات المتبادلة غير المعلنة رسميًا، لكنها كانت تحمل رسائل واضحة: الكيان الإسرائيلي يشدد الضغط عبر هجمات سيبرانية وجوية دقيقة، وإيران ترد بإظهار قدراتها الصاروخية وتكثيف أنشطتها النووية في منشآت نائية وبعمق استراتيجي.

في هذه الأجواء المشحونة، طرحت الولايات المتحدة، من خلال وساطة عمانية وأوروبية، مبادرة جديدة تهدف إلى “تجميد التصعيد” تمهيدًا لمسار تفاوضي مختلف. غير أن المقاربة الأمريكية الجديدة، رغم ما حملته من تغييرات شكلية، لم تلبِّ الحد الأدنى من مطالب إيران، خاصة في ما يتعلق برفع شامل للعقوبات، وشطب الحرس الثوري من قوائم الإرهاب، وضمانات بعدم الانسحاب مجددًا من أي اتفاق.

تضمنت الورقة الأمريكية المقترحة النقاط التالية:

  • رفع جزئي للعقوبات المفروضة على قطاع النفط وبعض المعاملات المالية.

  • التزام إيران بنسبة تخصيب لا تتجاوز 3.67% لمدة عشر سنوات.

  • نقل فائض اليورانيوم المخصب إلى دولة ثالثة (طرحت تركيا كخيار محتمل).

  • استمرار إدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن قوائم الإرهاب الأمريكية.

  • فتح جميع المنشآت النووية أمام فرق التفتيش الدولية، بما في ذلك المواقع غير المعلنة سابقًا.

  • التزام بعدم تطوير أو اختبار صواريخ باليستية متوسطة أو بعيدة المدى خلال مدة الاتفاق.

الرد الإيراني لم يتأخر: رفض رسمي وميداني. وصف المتحدث باسم الخارجية الإيرانية المقترح بأنه “نسخة منقحة من إملاءات فاشلة”، فيما شدد المرشد الأعلى علي خامنئي على أن “طهران لن تقايض أمنها وكرامتها الوطنية بمكاسب اقتصادية وقتية”. وفي خضم هذا الخطاب الحاد، بدا أن النخبة الإيرانية باتت موحّدة خلف خيار “الممانعة الكاملة”، مدفوعة بخبرة 22 عامًا من الشد والجذب، والخوف من تكرار سيناريو 2015 و2018.

سرعان ما انزلق الفشل الدبلوماسي إلى انفجار عسكري محدود. فمع اقتراب انتهاء المهلة التي طرحتها إدارة ترامب – عبر وسطاء خليجيين – لقبول “الصفقة الأخيرة”، شنّ  الكين الإسرائيلي في اليوم الأخير من المهلة ضربات جوية مركزة على منشآت نووية في نطنز وأصفهان، مستخدمة طائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى. وأسفرت الضربات عن مقتل شخصيات بارزة من الحرس الثوري وعدد من علماء البرنامج النووي الإيراني، في عملية وُصفت في طهران بأنها “اغتيال صريح لمستقبل التفاهم”.

تزامنت هذه الهجمات مع تصريحات إسرائيلية حاسمة بأن “نافذة الدبلوماسية قد أُغلقت إلى غير رجعة”، ما عُدّ إنهاءً رسميًا لأي رهان تفاوضي.

جاء الرد الإيراني سريعًا ومتنوعًا، عبر موجة من الطائرات المسيّرة  والصواريخ ، وسط إعلان ناري من الحرس الثوري بأن “الرد هذه المرة لن يكون محدودًا ولا قابلاً للضبط من أي طرف”

بعد اثنين وعشرين عامًا من التفاوض والمراوغة والضغوط المتبادلة، لم يعد الملف النووي الإيراني مجرد خلاف تقني حول التخصيب أو بنود الاتفاق، بل أصبح صراعًا رمزيًا واستراتيجيًا يعكس ميزان القوى الإقليمي والدولي. من “صفقة 2003” إلى “الصفقة التي رفضتها طهران” في 2025، تعثرت كل جولة في تحقيق توافق دائم، وسقط كل اتفاق أمام تغيّر الإدارات الأمريكية وتمسك طهران بالتوابث السيادية.

اليوم، تقف المنطقة على حافة مفترق حاد: مفاوضات معلّقة، ثقة شبه معدومة، وتصعيد عسكري خرج من الظلال إلى العلن. الكيان الإسرائيلي ينفّذ ضربات دقيقة داخل العمق الإيراني، وطهران ترد بعنف منسّق ومتعدد، مستخدمةً طائرات مسيّرة وصواريخ دقيقة، في تصعيد غير مسبوق كشف عن جاهزيتها الهجومية وقدرتها على ضرب مصالح خصومها في أكثر من ساحة، فيما تحاول الولايات المتحدة الموازنة بين تفادي الحرب ورفض تقديم تنازلات كبرى، وسط انقسام داخلي يحدّ من قدرتها على التحرك الحاسم.

في هذه الأجواء المشحونة، تلوح موسكو وبكين كلاعبين موازنين، حيث تعبّر تصريحاتهما العلنية عن دعوات لضبط النفس، لكنها تحمل بين السطور تحميلًا غير مباشر للغرب مسؤولية الانفجار، ودفعًا نحو تسوية تراعي الهواجس الإيرانية، في مشهد يعكس اصطفافًا سياسيًا غير معلن، يرسم خطوطًا حمراء أمام أي حسم عسكري أو تفاوضي أحادي.

في ظل هذا التوازن المختل، تتقلص الخيارات أمام الأطراف الدولية:

  • تسوية متعددة الأقطاب تقودها روسيا والصين ضمن إطار إقليمي يأخذ في الاعتبار النفوذ الإيراني.

  • تهدئة مؤقتة بوساطات إقليمية مقابل تجميد نووي جزئي دون اتفاق شامل.

  • أزمة طاقة كبرى في حال التصعيد عند مضيق هرمز أو استهداف منشآت خليجية.

  • أو السيناريو الأسوأ: حرب إقليمية شاملة بمشاركة مباشرة أو غير مباشرة من قوى كبرى، تنقل الشرق الأوسط إلى مرحلة من الفوضى المفتوحة.

وفي قلب هذا التصعيد، تتجلّى المفارقة الأكثر فظاعة في النظام الدولي: إيران، الموقِّعة على معاهدة حظر الانتشار النووي والخاضعة للتفتيش الدولي، تُستهدف علنًا بضربات عسكرية من قبل الكيان الإسرائيلي، الذي لم يوقّع يومًا على المعاهدة ويمتلك ترسانة نووية غير خاضعة لأي رقابة، هو من يبادر بالهجوم… دون مساءلة أو رادع. إنها عدالة بمعايير مزدوجة، تمنح الغطاء للمعتدي وتحاسب المُقيَّد.”

إنّ ما يحدث ليس مجرد فشل دبلوماسي، بل انكشاف خطير لمنظومة دولية تكيل بمكيالين، وتسمح بتحوّل الردع إلى استباق، والشرعية إلى استثناءات. وكلما طالت هذه الحالة، اقتربت المنطقة من نقطة اللاعودة، حيث لا يعود السلام خيارًا… بل رفاهية عابرة.

المصادر والمراجع:

  • وكالة رويترز، أرشيف المفاوضات 2023–2025

  • صحيفة الشرق الأوسط، تقارير نووية وتحليلات إقليمية

  • وكالة فارس الإيرانية، بيانات رسمية

  • الجزيرة نت، تغطيات جولات فيينا ومسقط

  • تقرير مجلس الأمن حول العقوبات (2024)

  • مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (CSIS)

  • معهد بروكينغز، تحليلات موقف إدارة بايدن

Related posts

السيدة الوزيرة تترأس اجتماعًا تنسيقيًا لمناقشة جملة من الملفات على رأسها التحضيرات للدخول الاجتماعي والمدرسي المقبلين

السيدة الوزيرة تؤكد أن دعم و مرافقة المرأة في صلب اهتمامات قطاع التضامن الوطني

السيدة الوزيرة تقوم بزيارة عمل وتفقد إلى ولاية عين قزام

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More