قراءة في نتائج البكالوريا هذه السنة وما قبلها في السنوات الماضية، تشعرنا بالفخر ولكنها تحيلنا على كثير من التساؤلات، منها تميز الفئة النسوية وتطلعها إلى العلم والتعلم، والتوجه العلمي للمتفوقات التي كانت لسنوات عديدة حصرا على جنس الذكور، وكيف يمكن ترجمة ذلك على سوق العمل.
بقلم: نفيسة لحرش
في كل موسم دراسي، يلفت المشهد التربوي في الجزائر الأنظار نحو ظاهرة متكررة ومتصاعدة: وهي ظاهرة
التفوق اللافت للفتيات في امتحانات البكالوريا.. حيث تشير الإحصاءات الرسمية لسنة 2025، كما في السنوات السابقة، إلى أن نسبة الإناث من بين الناجحين تفوق 65%، بل تتجاوز أحيانًا عتبة 70% في بعض الولايات، مع هيمنة واضحة للفتيات على قوائم الأوائل وطنياً، بل وأكدت حتى في بعض فئات التعليم الخاصة مثل “أشبال الأمة”، على تميز فاق المائة في المائة بكونه من أكثر النماذج انضباطاً وتميزاً
هذا النجاح الذي حققته المرأو تعليميا، ليس صدفة ولا استثناءً عابراً، بل هو ثمرة تحولات اجتماعية عميقة، وثقافة أسرية ترسخت عبر السنوات، ترى في التعليم بوابة للفتيات نحو الكرامة الاجتماعية والارتقاء الذاتي. ومع ذلك، فإن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح: إلى أين تمضي هذه الكفاءات النسوية بعد البكالوريا؟ وهل تجد امتدادًا عادلاً لها في سوق العمل وفي السياسات التنموية للدولة؟
النجاح التربوي… ومفارقة سوق العمل
المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذا التميز الدراسي الذي لا يجد صداه في نسب تشغيل النساء، إذ لا تزال مشاركة المرأة الجزائرية في سوق العمل دون الطموح، حيث تشير تقارير وطنية ودولية إلى أن نسبة النساء العاملات لا تتجاوز 18% من مجموع القوى العاملة، وهو رقم يعكس فجوة حقيقية بين ما تنتجه المدرسة من كفاءات نسوية، وبين ما يستوعبه الاقتصاد من فرص حقيقية لتمكين المرأة، هذه الفجوة ليست تقنية فحسب، بل هي هيكلية وثقافية. إذ أن سوق العمل الجزائري لا يزال محكوماً في كثير من قطاعاته بمنظور تقليدي يقيد ولوج النساء إلى مجالات عمل عديدة، لا سيما في المناصب العليا أو في المناطق الداخلية، ناهيك عن التحديات المرتبطة بغياب آليات الحماية الاجتماعية، والنقل، ومرونة ساعات العمل، وهي في عمومها تناقض النصوص الدستورية التي تدعو إلى ترقية المرأة وحمايتها بل وأكثر من ذلك ، تدعو إلى المناصفة في الولوج إلى العمل ومناصب المسؤولية.
دلالات اجتماعية وسياسية
التفوق الأنثوي في البكالوريا ليس مجرد ظاهرة تعليمية، بل يحمل دلالات أعمق تتعلق ببنية المجتمع، وتحول الأدوار الجندرية. ففي وقت تعاني فيه بعض الفئات الذكورية من التسرب المدرسي، وتفضيل التوجه نحو العمل غير النظامي أو الهجرة، تثابر الفتيات في التحصيل العلمي، رغم كل الصعوبات، وهو ما يعكس تحولاً في الوعي لدى الأسرة الجزائرية، التي باتت تراهن أكثر على بناتها في معركة الصعود الاجتماعي.
لكن هذا التحول الإجتماعي الإيجابي يحتاج إلى حماية سياسية وتخطيط تنموي ذكي، يواكب الطموحات الواقعية لهؤلاء الفتيات، عبر إصلاح سوق العمل، وإدماج قضايا النوع الاجتماعي في السياسات العمومية، وتشجيع المقاولات النسوية، وضمان عدالة في فرص التوظيف والترقية، وتطبيق ما جاءت به القوانين والدساتير الجزائرية.
نحو رؤية تنموية متوازنة
لا يمكن الحديث عن تنمية وطنية شاملة دون الاستفادة من الرأسمال البشري النسوي، خاصة إذا كان هذا الرأسمال قد أثبت جدارته في أصعب المراحل الدراسية. إن تجاهل هذا المورد، أو تهميشه، هو تبديد للثروة الوطنية، وتكريس لهدر مؤسسي في الاستثمار التربوي. مما يحمل المرحلة القادمة مسؤولية فرض القانون على صناع القرار في الجزائر والخروج من عقلية الإحصاء إلى عقلية التخطيط، ومن الاكتفاء بتسجيل نسب النجاح، إلى ترجمتها إلى فرص اقتصادية واجتماعية متاحة على قدم المساواة. كما أنه على الجامعات ومراكز التكوين هي الأخرى تبني منهجيات جديدة لربط التكوين باحتياجات السوق، وتشجيع التخصصات التي تضمن تمثيلاً نسويًا في ميادين العلوم والتكنولوجيا، والمقاولة، والقيادة السياسية.
والخلاصة ،هي إن تفوق الفتيات الجزائريات في البكالوريا هو إنذار إيجابي، ينبهنا إلى أن طاقات ضخمة تستعد لقيادة الجزائر نحو مستقبل مختلف، إذا ما أتيحت لها الأدوات والفرص. وبدلاً من أن يبقى هذا النجاح مجرد رقم يُحتفى به موسمياً، حان الوقت لتحويله إلى رافعة حقيقية للتغيير التنموي والاجتماعي في الجزائر التي نصبو جميعا أن تتبوأ المراكز التنموية العليا في خضم عالم صاعد كالبرق يلفظ في مساره كل المتقاعسين أو الجامدين .