حملة “صوريه واشكي” في الجزائر: عدسة على التحرش وصرخة في وجه القانون

عندما تتحول الصورة إلى أداة مقاومة

في ربيع عام 2025، أطلقت مجموعة من النساء والفتيات الجزائريات حملة رقمية بعنوان “صوريه واشكي”، تدعو من خلالها النساء إلى توثيق التحرش عبر التصوير والتبليغ عنه. وتُعد هذه المبادرة امتدادًا لحملة “افضحي المتحرش”، التي أطلقتها TBD Algeria قبل عامين على منصة إنستغرام، والتي هدفت إلى محاربة التحرش الجنسي، وثقافة الاغتصاب، وكل أشكال العنف المسلط على النساء والأطفال. تعكس هذه الحملة التزام المرأة الجزائرية المتواصل بكسر جدار الصمت الاجتماعي، ومواجهة الهيمنة الذكورية باستخدام أدوات رقمية تُمكّن الضحية من التحوّل إلى فاعلة ومؤثرة.

صدى واسع وتفاعل مجتمعي

منذ انطلاقتها، لاقت الحملة الجديدة تفاعلًا لافتًا من قبل رواد وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا النساء اللواتي وجدن فيها متنفسًا للتعبير عن تجاربهن اليومية مع التحرش في الشوارع، ووسيلة عملية لفضح المتحرشين. وقد تم تداول عدد من مقاطع الفيديو التي توثق لحظات تحرش حقيقية، مما أعاد الجدل بقوة إلى الساحة حول قضايا العنف الجنسي، العدالة، والوصم الاجتماعي الذي تعاني منه الضحايا.

العنف ليس سلوكًا فرديًا بل نظامًا متجذرًا

في تحليلها السياسي والاجتماعي لحملة “صوريه واشكي”، تؤكد الصحفية النسوية الجزائرية ومؤسسة الجريدة النسوية الجزائرية، أمال حجاج، أن القضية تتجاوز إطار التصرفات الفردية لتكشف عن أزمة بنيوية أعمق داخل المجتمع. وتقول:

ما نراه اليوم لا يمكن اختزاله في ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس مباشر لعنف رمزي ومادي ممنهج يُمارس داخل الفضاءات العامة في الجزائر. التحرش ليس مجرد فعل فردي معزول، بل هو نتيجة لبنية اجتماعية تُعيد إنتاج الهيمنة الذكورية بشكل يومي، سواء في الشارع، أو في المدرسة، أو حتى داخل مؤسسات الدولة.”

وتتابع: “حين تتحد مجموعة من النساء – سواء كنّ معروفات أو لا – لإطلاق حملة تلقى صدى واسعًا بين الآلاف، فهذا يعني أن هناك وعيًا جماعيًا يتنامى، ورفضًا متزايدًا لاعتبار التحرش مجرد ‘سوء تفاهم’ أو نتيجة لباس معين. هذه الحملة تقول بصوت واضح: لا أحد يملك الحق في التعدي على جسد النساء، لأي سبب كان.”

وترى حجاج أن الصورة في هذا السياق لم تعد فقط أداة إثبات، بل تحولت إلى وسيلة لكسر الصمت ونقل الخجل من الضحية إلى الجاني:
“السكوت على التحرش هو تواطؤ صريح، وهذه المبادرات الرقمية تُجبر المجتمع على مواجهة نفسه. صحيح أن هناك جدلًا قانونيًا واجتماعيًا يرافق الحملة، لكننا بحاجة إلى هذا الجدل، لأنه يفتح بابًا للتغيير. تمامًا كما فعلت حملات إقليمية وعالمية مثل #MeToo و#BalanceTonPorc، التي كسرت التابوهات وأدت إلى تغييرات ملموسة.” وتضيف : “حملة ‘صوريه واشكي’ ليست بداية، بل امتداد واستمرارية لمبادرات سابقة مثل ‘لغدٍ أفضل’ التي أطلقتها TBD Algeria. ما نحتاجه اليوم هو تحديث التشريعات، وضمان تطبيقها، ومحاسبة المتحرشين بصرامة. لأن كرامة النساء الجسدية ليست محل تفاوض، بل حق غير قابل للمساومة”.*

صعوبة التبليغ وغياب الدعم المجتمعي

تُشير الإعلامية والناشطة النسوية ورئيسة الجمعية الوطنية للمرأة في اتصال، السيدة نفيسة لحرش، إلى أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في غياب القوانين، بل في عجز تطبيقها على أرض الواقع. وتوضح قائلة:

“العقبات لا تظهر عند صياغة النصوص القانونية، بل عند محاولة تفعيلها. فالنساء يواجهن صعوبات جمّة في إثبات جريمة التحرش، خاصة في ظل صعوبة العثور على شهود، إذ يخشى الكثيرون – رجالًا ونساءً – الإدلاء بشهاداتهم أمام القضاء، أو يفضلون الابتعاد عن قضايا يعتبرها المجتمع ‘حساسة’.”

وتضيف: “في هذا السياق، لا تملك المرأة سوى خيار التوثيق، سواء بالصوت أو بالصورة. ورغم ما يطرحه ذلك من جدل قانوني يتعلق بالخصوصية، فإنه يظل وسيلة فعالة لكشف الحقيقة، ولفرض حضور الواقعة في الوعي الجماعي.” وتؤكد أن الصورة أو الفيديو لا تكتفي بدور الإثبات في المحكمة، بل تصبح أيضًا أداة للتأثير في الرأي العام، وتقول: “عندما يشاهد الناس مشاهد موثقة للتحرش، يصعب عليهم إنكار الفعل أو التشكيك في رواية الضحية. الصورة في هذه الحالة تتجاوز وظيفتها القضائية لتصبح صرخة مجتمعية”.
وتلفت السيدة لحرش إلى خطورة التحرش الأسري، معتبرةً أنه من أكثر أشكال العنف إنكارًا: “يصعب على البعض تصديق أن التحرش يمكن أن يحدث داخل الأسرة، بين أب وابنته، أو أخ وأخته. لكنه واقع صامت يحتاج إلى فضح وكسر هذا التابو العائلي”.

وتختم: “حملة ‘صوريه واشكي’ تُعد خطوة شجاعة، لكنها بحاجة إلى دعم أوسع. العديد من الجمعيات تواجه صعوبات مالية وتنظيمية تعيق تحركها، لكن على الأقل يمكننا دعم المبادرات الفردية التي تساهم في كسر هذا الصمت الخانق. فالصمت اليوم لم يعد موقفًا محايدًا، بل تواطؤًا مع الجريمة”.

“كلنا ضد التحرش، وفضح المتحرشين مسؤولية جماعية”

يقول شكيب، شاب في العشرينبات، هو سائق يعمل في إحدى شركات خدمات التاكسي عبر الهاتف:
كما لا أقبل أن تتعرض أختي للتحرش، لا يمكنني أن أقبل أن يحدث ذلك لأي فتاة أخرى. هذه المبادرة شجاعة وضرورية، لأن المتحرشين فقدوا أي إحساس بالخجل أو الندم. لا بد أن نكشفهم للعلن، حتى لا يكرروا أفعالهم مع فتيات أخريات.

ويضيف بحزم: “كل واحد منا عنده أمه، أخته، بناته… وإذا لا نرضى لهن يتعرضن للتحرش، فمن الواجب أن نرفضه أيضًا بحق جميع البنات والنساء. أنا أؤيد هذه الحملة بكل ما أملك من قوة. وإذا صادفت متحرشًا في الشارع، لن أتردد في توثيق فعلته وفضحه”.

الجدل القانوني في الحملة

في تعليقها على الجدل القانوني المحيط بحملة “صوّريه واشكي”، تشير الأستاذة سهام حماش، المناضلة النسوية والمحامية وعضوة في شبكة “وسيلة”، إلى إشكالية قبول الصور ومقاطع الفيديو كدليل قضائي في المحكمة. تقول: “السؤال الجوهري هنا هو: هل سيقبل القاضي هذه الصور أو مقاطع الفيديو؟ فالتصوير بحد ذاته يتطلب رخصة قانونية. مع ذلك، التصوير في هذه الحملة ليس الهدف منه التشهير وانما أداة لتقديم شكوى. على الرغم من أن تصوير الناس قد يعتبر جريمة في بعض الحالات، إلا أن التوثيق من قبل الضحية للجريمة يُعد من الأركان المادية التي يمكن أن تساهم في الاستدلال على حدوث الواقعة. الصور قد تلعب دورًا في إثبات الجريمة ودفع القاضي لفتح تحقيق.”

و تضيف:

“الهدف من هذه الحملة هو توجيه الضحايا إلى الطريقة الصحيحة في التعامل مع هذه الجرائم. يجب على النساء ألا يخشين التبليغ عن المعتدين. التصوير هنا هو خطوة في مسار قانوني يمكن أن يؤدي إلى محاكمة عادلة. من المهم أن نفهم أن القانون يعاقب على التحرش الجنسي، والشكوى هي الأساس في مثل هذه القضايا. والصور، أداة إضافية لتوثيق الحادثة وتدعيم القضية.”

من الجزائر إلى العالم: أصوات نسوية ضد التحرش — تقاطعات مع التجارب الفرنسية والأمريكية والعربية

انطلقت حملة “مي تو” (#MeToo) في الأصل سنة 2006، على يد الناشطة الأمريكية تارانا بورك، التي أطلقت هذه العبارة كنداء تضامن مع الفتيات والنساء من ضحايا الاعتداءات الجنسية، وخصوصًا من النساء ذوات البشرة السوداء في الأوساط المهمشة. لم تلق الحملة في بدايتها الانتشار الواسع، لكنها كانت نواة لفكرة مفادها: “لستِ وحدكِ”.

إلا أن التحول الحقيقي وقع سنة 2017، بعد أن نشرت الممثلة الأمريكية أليسا ميلانو تغريدة دعت فيها النساء اللاتي تعرضن للتحرش أو الاعتداء الجنسي إلى كتابة “Me Too” على مواقع التواصل. جاء ذلك على خلفية الفضائح التي طالت المنتج السينمائي الشهير هارفي واينستين، والتي كشفت عن نمط متكرر من العنف المسكوت عنه في هوليوود.

في ظرف أيام، اجتاح الوسم العالم، وتحوّل إلى حركة جماعية دفعت آلاف النساء من مختلف البلدان والأعمار إلى كسر جدار الصمت، ومشاركة قصصهن، سواء علنًا أو تحت غطاء السرية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت “مي تو” رمزًا لمقاومة العنف الجنسي، والمطالبة بالمحاسبة والعدالة.

ومن خلال هذا الانتشار الكبير، تمكنت الحملة من تحويل مسار العديد من القضايا المرتبطة بالعنف الجنسي والتحرش في مختلف الثقافات، ليتم تعديل القوانين وتعزيز آليات الحماية في دول عديدة. وقد أسهمت الحملة في نشر الوعي بتبعات التحرش الجنسي وجعلت من الصعب على المجتمع أن يبقى متفرجًا أمام هذه الظاهرة.

أمريكا الشمالية واللاتينية: من هوليوود إلى الشارع

في كندا وأمريكا اللاتينية، خصوصًا في المكسيك والأرجنتين، خرجت آلاف النساء إلى الشوارع تحت شعارات مثل “Ni Una Menos”، رفضًا للعنف الجنسي والنسوي، رافعات صور ضحايا ومعبرات عن غضب جماعي يتجاوز الحدود.

فرنسا: من “Balance Ton Porc” إلى تشريعات واقعية

في فرنسا، أطلقت الصحفية Sandra Muller سنة 2017 وسم “#BalanceTonPorc” (افضح خنزيرك)، والذي أتاح لآلاف النساء مشاركة قصص تحرشهن، خاصة في أماكن العمل. سرعان ما أثمرت هذه الحملة ضغوطًا تشريعية، حيث تبنت الدولة قانونًا جديدًا يُجرّم التحرش في الأماكن العامة، ويُسهّل التبليغ ويحمي الضحايا. كما أثارت نقاشات كبرى حول العلاقات المهنية، ووضعت مسؤولية إضافية على المؤسسات لحماية موظفاتها.

“أنا أيضًا” في العالم العربي: كسر الصمت وسط القيود

رغم أن حملة #MeToo انطلقت من الولايات المتحدة، فإنها سرعان ما وجدت صداها في المنطقة العربية، تحت وسم «#أنا_أيضًا» الذي حمل نفس الرسالة بصيغة تتناسب مع السياق الثقافي المحلي. وقد تميزت النسخ العربية للحملة بتحديات مضاعفة: القمع السياسي والوصم الاجتماعي، ما جعل فعل “الفضح” شجاعة مضاعفة. رغم تباين التجارب النسوية في العالم العربي، نسلط الضوء هنا على بعض الحملات البارزة التي شكّلت تحولات ملموسة في مواجهة العنف الجنسي وكسر الصمت.”

مصر: من الجامعة إلى الشارع

في مصر، شهد عام 2020 موجة جديدة من التبليغات العلنية عن التحرش، بعد أن نشرت الطالبة نانسي عادل سلسلة شهادات عن شاب يُدعى أحمد بسام زكي، متهم بالتحرش والاعتداء الجنسي على عشرات الفتيات. تبنّت صفحة “Assault Police” على إنستغرام القضية، ما أدى إلى حملة تضامن واسعة انتهت باعتقاله ومتابعته قضائيًا.

أعاد هذا الحدث موضوع التحرش إلى صدارة النقاش العام، وفتح الباب أمام مئات الشهادات الأخرى، لا سيما من داخل الجامعات، ما دفع بعض الإدارات إلى تعديل سياساتها، وحرّك البرلمان لاعتماد تعديلات قانونية لحماية المُبلّغات.

لبنان: الصوت النسوي رغم الأزمات

في لبنان، اكتسبت حملة «#أنا_أيضًا» طابعًا جماعيًا أكثر، واحدة من أبرز هذه المبادرات كانت حملة “مش بسيطة”، التي سلطت الضوء على العنف الجنسي “غير المرئي” الذي تتعرض له النساء يوميًا، كالتعليقات الجنسية، اللمس غير المرغوب فيه، والابتزاز العاطفي. وقد لاقت الحملة تفاعلًا كبيرًا، خاصة من الشابات، وأسهمت في خلق لغة جديدة للحديث عن انتهاكات لم يكن يُعترف بها سابقًا كـ”عنف”. كذلك، تفاعل الكثير من الشباب مع هذه الحملة، ما جعله جزءًا من عملية التحول المجتمعي في لبنان.

الكويت: خطوة نحو التغيير في مواجهة التحرش
في الكويت، شهدت الساحة النسوية حركة متزايدة ضد التحرش الجنسي، حيث أطلقت عدة نساء حملة بعنوان «#تحرش_جنسي_لا_للصمت»، تهدف إلى توعية المجتمع بضرورة احترام حقوق النساء وتغيير نظرة المجتمع تجاه المتحرشين. الحملة جمعت شجاعة عدد كبير من النساء اللواتي لم يترددوا في تقديم شهاداتهن حول التجارب الشخصية مع التحرش، رغم وجود تحديات قانونية واجتماعية في الكويت.

واجهت الحملة مقاومة من بعض الأطراف، لكن تفاعل الشباب الكويتي كان لافتًا، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع السلطات إلى النظر في تبني سياسات قانونية أقوى لمعاقبة المتحرشين وتعزيز الحماية للنساء. هذه الحملة أثبتت أن النساء في الكويت قادرات على فتح نقاشات جادة حول قضايا العنف الجنسي رغم القيود الاجتماعية.

دروس مشتركة وتجارب محلية

رغم اختلاف السياقات، إلا أن المشترك بين هذه التجارب هو الانتقال من الصمت إلى الكلام، ومن الإخفاء إلى الفضح، ومن العزلة إلى التضامن. اليوم، تفتح حملة “صوّريه واشكي” في الجزائر فصلًا جديدًا في هذه القصة. إنها لا تعيد فقط طرح نفس الأسئلة، بل تعيد صياغتها بما يتلاءم مع الخصوصية المحلية، دون التخلي عن الطموح الكوني: جسد المرأة ليس مجالًا للهيمنة، والصمت لم يعد مقبولًا.

إن التحدي الأكبر اليوم يكمن في استدامة هذه الحركات، وضمان ألا تظل لحظة إعلامية عابرة، بل تتحول إلى سياسات، وممارسات، وثقافة. وكما علمتنا الحملات الدولية السابقة، فإن فضح المتحرش خطوة أولى فقط؛ أما المعركة الحقيقية فهي في تغيير البنية الاجتماعية التي تسمح له أن يتحرش دون خوف.

Related posts

150 يومًا مدفوعة وامتيازات إضافية: وزارة العمل تعزز حقوق الأمهات العاملات

فيديو صادم يهزّ الرأي العام:

السعودية: مناهل العتيبي تواجه حكمًا بالسجن 11 عامًا وسط دعوات حقوقية متصاعدة للإفراج عنها

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More