دراما تقتحم المسكوت عنه وتعيد تعريف الأمومة والشجاعة النسوية.. ؟ “لام شمسية”  

في موسم درامي حافل بالأعمال المتنوعة، برز مسلسل “لام شمسية” كأحد أبرز الإنتاجات التلفزيونية في شهر رمضان 2025، لما أبرزه من جرأة في تناول قضية حساسة وعميقة في المجتمع العربي والتي تتعلق بـمسألة التحرش بالأطفال والصمت المجتمعي المطبق حولها.
عُرض المسلسل لأول مرة في مارس 2025 على قناة DMD، ضمن إنتاجات موسم رمضان، يشمل 15 حلقة، من تأليف مريم نعوم وإخراج كريم الشناوي، وهو يجمع بين عناصر الدراما الاجتماعية والتشويق النفسي. منذ بداية عرضه، اجتذب المسلسل الأنظار بفضل معالجته الواقعية للأحداث واهتمامه بتسليط الضوء على قضية التحرش بالأطفال في المجتمع العربي المعروف بغض النظر عن مثل هذه القضايا المثيرة.
القصة والأحداث:
تدور أحداث المسلسل حول السيدة نيللي (أمينة خليل)، المعلمة في مدرسة دولية والتي تحاول جاهدة بناء حياة أسرية مستقرة مع زوجها طارق (أحمد السعدني) وابنيه يوسف (علي البيلي) من زواج طارق السابق، و” ياسين”  من زواجهما الحالي. تبدأ القصة بإبراز صورة نيللي المثالية، التي تسعى بكل حب لبناء علاقة أمومة حقيقية مع يوسف، رغم التحديات التي يفرضها ماضي العائلة المعقد، لكن هذه الصورة الوردية سريعا ما تبرز سلبياتها أثناء حفلة عيد ميلاد يوسف، عندما تبدأ نيللي بملاحظة سلوكيات مريبة من وسام (محمد شاهين)، صديق العائلة المقرب، ما يوحي لديها بشكوك عابرة سرعان ما تحولت مع الأيام إلى كابوس حقيقي عند اكتشاف نيللي لأمر صادم وهو تعرض
يوسف للتحرش الجنسي من قبل وسام..
تواجه نيللي جداراً من الإنكار يرفض عبره طارق تصديق اتهاماتها ضد صديقه المقرب، متمسكاً بعدم وجود أدلة قاطعة، في مشهد مؤلم، يكشف عن أولوية الصداقة الذكورية على حساب سلامة الطفل في المنظومة الاجتماعية السائدة. تتعقد الأمور أكثر عندما تصادف نيللي مشهداً مروعاً ليوسف وهو يكرر نفس السلوك المشين مع أخيه الأصغر ياسين، ما أكد لديها نظرية “دورة العنف” التي يخلفها الاعتداء
الجنسي على نفسية الأطفال المعنفين والتي يؤكدها التحليل النفسي..

يكشف يوسف الحقيقة المرة التي كان ضحيتها، بل وتجعله يقوم بتكرار الاعتداء الجنسي على أخيه. لكن حاجز الصمت ينكسر أخيراً، بعد تعقد الأحداث وتشابكها ووصولها إلى الذروة الأكثر تأثيرا، عندها يعترف يوسف لوالده بالحقيقة الكاملة، وبالاعتداءات التي كان يتعرض لها من وسام، في مشهد درامي مكثف يضع طارق أمام مفترق طرق صعب بين ولائه لصديقه القديم ومسؤوليته كأب.
ولا تكتفي نيللي في خضم معركتها الشجاعة ضد الصمت المجتمعي، بالكشف فقط، بل تقوم بنشر القصة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يثير عاصفة من ردود الأفعال المتباينة..
وتكون المفاجأة أكثر جاذبية وخطورة، عندما تقوم نيللي بإخراج عدد آخر من الضحايا من الظل، وتكشف عن تعرضهن لنفس الاعتداءات من وسام، مما يؤكد طبيعة الجاني كمتحرش معتد محترف.
لكن، ورغم تحقيق العدالة الذي انتهى بحكم السجن المؤبد على وسام، إلا أن الألم النفسي العميق الذي خلفه الاعتداء الجنسي على الأطفال، وبالأخص، على نفسية يوسف، بقي قويا ومدمرا، وبقيت تلك المشاهد ألا أخلاقية محفورة في ذاكرته، مما سيعرضه لا محالة معاناة نفسية تهدد عالمه الطفولي البريء ولأمد طويل.
يقدم المسلسل من خلال هذه الرحلة الدرامية المؤثرة، رؤية شاملة لقضية اجتماعية شديدة الحساسية، نجحت في التركيز على الجوانب النفسية المعقدة للضحايا، وكذا الآليات الاجتماعية التي مكنت الجناة من التستر على جريمتهم، كما أبرزت إمكانية الشجاعة الفردية من كسر حاجز الصمت.. وعدم الاكتفاء بالعمل على سرد القصة، بل وضعت المشاهد أمام مرآة حقيقية عكست له تناقضاته المجتمعية ومسؤولياته الجماعية في مواجهة هذه الجرائم ومخاطر التستر عنها..

المعالجة الدرامية: توازن دقيق بين الواقعية والتأثير العاطفي..؟
تميز المسلسل بقدرته الفائقة على سرد القصة كواقعة اجتماعية دون انزلاق إلى آليات الإثارة الرخيصة أو التقنيات الاستعراضية المستفيضة، فكل مشهد كان مدروساً بعناية، من تصوير متقن للحظات الأولى من هاجس الشك، إلى اكتشاف الحقيقة المروعة، وصولاً إلى أطروحة الصراع القانوني والاجتماعي التي تلت الكشف عن الجريمة.. لم يركز السيناريو الذكي على الحدث الصادم في حد ذاته، بل غاص في أعماق الشخصيات وكشف عن تحولاتها النفسية المعقدة.. وعن كيفية تحول نيللي من امرأة عادية إلى مدافعة شرسة، وكيفية انهيار طارق عندما اكتشف أنه كان ضحية ثقته العمياء بصديقه فكانت سلاحاً ضد أسرته، وكيفية معاناة يوسف الصغير وقدرته على تحمل صدمة مزدوجة: الاعتداء الجسدي أولاً، ثم صدمة اكتشافه لعالم غير آمن يخالف كل معتقاداته.

الوصول إلى هذه الطبقات النفسية العميقة لدى أفراد المسلسل، هو ما جعل العمل، بكامل جزئياته، يتجاوز كونه مجرد دراما تلفزيونية تنقل قضية اجتماعية للناس، ليتحول في النهاية ومع تراتبية الأحداث ومع ما أفرزته معالجة المخرج الفنية مع معية طاقمه الفني وكاتب السيناريو، إلى استنساخ وثيقة اجتماعية نادرة تضع المجتمع في مرآة حقيقية تخضعه للنقد والتحليل.
الأداء التمثيلي:

إبداع يجسد أعماق المأساة الإنسانية لا يمكن الحديث عن نجاح “لام شمسية” دون التوقف عند العروض التمثيلية الاستثنائية التي قدمها طاقم العمل. “أمينة خليل” قدمت أداءً رائعا، حيث نقلت ببراعة تحول شخصية نيللي من الزوجة المطيعة إلى الأم الثائرة، مع الحفاظ على مصداقية التحول الدرامي.
“محمد شاهين” أبدع في تجسيد شخصية المعتدي، مبتعداً عن النمطية ليرسم صورة مرعبة للشر المختبئ تحت قناع الصداقة والدماثة. لكن المفاجأة الحقيقية كانت الطفل “علي البيلي” في دور يوسف، الذي قدم أداءً ناضجاً يفوق عمره بكثير، ناقلاً بألم وبصدق معاناة الطفل الضحية الذي حمل سراً أكبر من قدرته على التحمل. هذه العروض التمثيلية المتكاملة أعطت العمل طبقة إضافية من المصداقية والعاطفية، وجعلت المشاهد يعيش الأحداث لا يشاهدها فقط.

البعد الاجتماعي:

مرآة لمجتمع يرفض رؤية الحقيقة ما يجعل المسلسل مختلفاً هو كيفية تعامله مع ردود الفعل المجتمعية المتوقعة على
جريمة التحرش، فالمسلسل لم يقدم صورة مبسطة للخير والشر، بل كشف عن تعقيدات العلاقات الاجتماعية التي تتحول أحياناً إلى حاضنة للجريمة.. فتصويره لكيفية تحالف الأعراف الاجتماعية مع الجاني، وكيفية تحول الضحية إلى متهم، وكيفية تفضيل العائلة التستر على الواقعة خوفاً من الفضيحة.. هي في النهاية لوحة من الرؤى النقدية الجريئة للمجتمع، تطرح أسئلة مزعجة عن دور الجميع في استمرار هذه الجرائم، وعن ثمن الصمت الذي يدفعه الجميع عندما يختارون اللامبالاة أو الإنكار بدلاً من المواجهة. المسلسل بجرأته تلك، لم يكتف بسرد قصة، بل أرغم المشاهد على مواجهة حقائق مزعجة عن مجتمعه وعن نفسه أيضاً.
الرسالة الإنسانية: كسر القيود وضرورة المواجهة
وراء كل هذه الصور الدرامية والاجتماعية، يحمل “لام شمسية” رسالة إنسانية عميقة تدفع إلى ضرورة كسر حاجز الصمت والخوف.. فالمسلسل عندما يذكر الناس بازدهار الجرائم في الظلام، فهو يحفزه أيضا إلى اختيار عالم النور الذي يمنحه أول خطوات المواجهة فالشفاء.

تعتبر نهاية العمل رغم قسوتها، نافذة لبصيص أمل، تعمل على طرح تغيير ممكن لمعالجة ذكية لقضايا المجتمع الخطيرة والحساسة،. وهي الرسالة التي قدمها المسلسل بكل جرأة ومسؤولية، ما جعله أكثر من مجرد عمل ترفيهي، بل تحول إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية ستظل محل نقاش لوقت طويل، ربما ستكون يوما مساهمة في تغيير حقيقي في وعي المجتمع تجاه قضية التحرش الجنسي بالأطفال. البعد النسوي والجدل الأخلاقي:
يُقدم المسلسل نموذجا نسويا غير مسبوق في الدراما العربية، حيث يتحطم القالب النمطي للمرأة الضحية عبر شخصية “نيللي” التي تنتقل من دور الزوجة التقليدية إلى موقع المرأة المقاومة التي تواجه منظومة ذكورية متكاملة الأركان. هذه المنظومة تبدأ من الشك الزوجي، وتمر عبر الصداقة الذكورية، لتستقر في النهاية عند مجتمع يختار التعامي عن الحقائق المؤلمة. في لقطات بالغة القوة، يبرز العمل المفارقة الصارخة التي تحوّل الأم المدافعة عن طفلها إلى هدف للاتهامات، بينما يظل المعتدي المحصن بشبكة العلاقات الذكورية بمنأى عن المحاسبة. هذا التناقض المؤلم يكشف عن الخلل العميق في موازين القيم المجتمعية، حيث تُقدّم “حماية السمعة” على حساب حماية الضحايا الأبرياء.
يغوص المسلسل عميقاً في ثمن المواجهة الباهظ الذي تدفعه المرأة حين تتحدى الأعراف الراسخة، ليكشف أن المعركة الحقيقية تتجاوز مواجهة المعتدي الفرد إلى مجابهة ثقافة كاملة تشرعن للعنف، وتُجرم الضحايا، وترسخ ثقافة الصمت تحت مبررات تقليدية واجتماعية واهية. وهذه الرؤية الجريئة في الطرح تضع المشاهد أمام مرآة فاضحة لتناقضاته الأخلاقية ومواربته المجتمعية في التعامل مع قضايا العنف الجنسي بصفة عامة.

الردود: إشادة وجدال
أثار المسلسل عاصفة من النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تحولت شخصية “نيللي” إلى رمز للأم التي ترفض الصمت، بينما أعادت المشاهد المؤثرة فتح ملفات شخصية عديدة لضحايا التحرش. لكن الجدل الأكبر دار حول مدى أخلاقية طرح مثل هذه الموضوعات الحساسة في مسلسل رمضاني، وهو سؤال كشف في جوهره عن التناقض المجتمعي بين الرغبة في التغيير والخوف من مواجهة الذات.
أما وراء الكواليس، فيبقى السؤال عن مدى الإجراءات التي اتخذها فريق العمل لحماية الطفل الممثل أثناء تصويره لتلك المشاهد الصادمة في غياب تأكيدات رسمية، رغم ما تشير إليه الدلائل من توفر طاقم للدعم النفسي المتخصص، وهو أمر لو ثبتت صحته سيكون إنجازاً لا يقل أهمية عن الرسالة الاجتماعية التي يحملها العمل نفسه.

“لام شمسية” ليس مجرد مسلسل فقط، بل صرخة في وجه ثقافة الصمت التي تسمح بتكرار الجرائم جيلاً بعد جيل. وهو عمل لا يكتفي بكشف القبح، بل يضع المشاهد أمام مرآة عاكسة تفضح صعوبة أن يكون الإنسان ضحية معتقداته وانتماءاته، وصعوبة أن يمتلك الشجاعة والقدرة على رفع الصوت والمقاومة ضد الظلم المسكوت عنه.

Related posts

أهم مزايا الاتفاقية المبرمة مع وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي

الملتقى المتوسطي للصحافة 2025 في مرسيليا:

رحيل الكاتب ماريو فارغاس يوسا صاحب جائزة نوبل للآداب

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More