رحيل الكاتبة والمناضلة فضيلة مرابط: صوت نسائي لا يُنسى في تاريخ الجزائر

في جو من الحزن والأسى، تلقّى الوسط الثقافي والأدبي الجزائري، يوم 14 ماي 2025، نبأ وفاة الدكتورة فضيلة مرابط، الكاتبة والمفكرة والناشطة النسوية، عن عمر يناهز التسعين سنة. لقد كانت فضيلة واحدة من أبرز الأصوات التي ناضلت من أجل حقوق المرأة وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية، وكرّست حياتها لرفض الظلم بكل أشكاله، سواء في مؤسسات الدولة أو في البنى الاجتماعية التقليدية التي كبّلت المرأة لعقود طويلة.

مسيرة علمية متميزة… وجذور نضالية عميقة
ولدت فضيلة مرابط يوم 12 أفريل 1935 بمدينة سكيكدة (شرق الجزائر)، في كنف عائلة مثقفة ومفتوحة على الحداثة، حيث كان والدها من أوائل من شجعوا تعليم الفتيات في محيطه. تابعت دراستها في جامعة ستراسبورغ بفرنسا، حيث حصلت على شهادة الدكتوراه في علم الأحياء، وقرّرت العودة إلى الجزائر بعد الاستقلال سنة 1962، مؤمنة بضرورة المساهمة في بناء وطن جديد يُنصف النساء كما الرجال.

اشتغلت فضيلة أستاذة في ثانويات العاصمة، وكانت من الوجوه الإعلامية البارزة في البرامج الإذاعية التي ناقشت قضايا المرأة والشباب. إلا أن جهرها المبكر بمواقف نقدية من وضع المرأة في الجزائر ما بعد الاستقلال، سرعان ما أدخلها في صراع مفتوح مع السلطة والمجتمع.

المرأة الجزائرية: كتاب أحدث زلزالاً
في سنة 1965، أصدرت فضيلة مرابط أول أعمالها الأدبية “المرأة الجزائرية”، وهو كتاب فكري صادم بمقاييس ذلك الوقت، وأحدث زلزالاً في المشهد الثقافي الجزائري آنذاك، حيث تناولت فيه التناقض الصارخ بين التضحيات الجسيمة التي قدمتها النساء خلال حرب التحرير والتهميش الذي طالهن بعد الاستقلال. وعبّرت بكلمات ثائرة عن خيبة أمل جيل كامل من النساء بقولها: “لقد عدنا إلى المطبخ بعدما حملنا السلاح” وهو ما جعل منها صوتاً مقلقاً.
هذا الكتاب لم يكن مجرد عمل أدبي، بل وثيقة سياسية وفكرية سبقت زمانها، جعلت منها هدفًا للهجوم والتشهير، حتى من داخل مؤسسات الدولة، حيث مُنعت من التدريس والإعلام، قبل أن تغادر الجزائر سنة 1971 نحو فرنسا.

سنوات المنفى: إبداع مستمر وكتابات جريئة
في باريس، لم تتوقف فضيلة مرابط عن الكتابة، بل زادت جرأتها، ووسّعت دائرة نقدها لتشمل السلطة والدين والأبوية والذاكرة الجماعية، حيث أصدرت مجموعة من الكتب المؤثرة باللغة الفرنسية، من بينها الجزائريات (1967)، ثورة مسروقة (1972)، امرأة من هنا وهناك، القط ذو العيون الذهبية، المؤذن ذو العيون الزرقاء، مقهى الإمام وطفولة فريدة، وجميعها تمثل شهادات قوية على واقع جزائري مأزوم، وتُبرز رؤيتها الحادة لمجتمع يعيش بين حداثة معلقة وتقاليد ضاغطة. كانت أعمالها تمزج بين السيرة الذاتية والرؤية التحليلية لمجتمع يعيش صراعًا بين الحداثة والتقليد.

العودة إلى الجزائر: الكتابة وسط الجيل الجديد
في سنة 2003، اتخذت فضيلة مرابط قرارًا مفصليًا بالعودة إلى وطنها الأم الجزائر، بعد سنوات طويلة قضتها في المنفى، وكان ذلك مدفوعًا برغبة عميقة في إعادة بناء الصلة مع الجيل الجديد من الشباب، لا سيما الشابات اللواتي يهتمن بقضايا الهوية والحرية والعدالة الاجتماعية، فوجدن في كتاباتها صوتًا يعبر عن قلقهن وأسئلتهن الوجودية. وقد كان حضورها في المعارض الوطنية للكتاب دائمًا مميزًا، إذ جذبت جمهورًا متعطشًا للفكر النقدي، حيث استطاعت، رغم تقدمها في السن، أن تقيم حوارًا صادقًا مع فئة عمرية شابة، باحثة عن نماذج نزيهة تلهمها. وخلال هذه المرحلة، أصدرت مجموعة من الكتب الهامة التي تعكس تطور تجربتها الفكرية وعمق رؤيتها، منها غبار نجوم الصادر سنة 2013، والجزائر: مسرح الأشباح، والقاعة البيضاء، فضلًا عن إعادة تقديم مقهى الإمام، وقد تناولت في هذه الأعمال موضوعات متعددة تمتزج فيها الذاكرة الفردية بالذاكرة الجماعية، وتتقاطع فيها مشاعر الحنين بالحسرة، لكنها ظلت جميعها مخلصة لقضيتها المركزية: الدفاع عن المرأة باعتبارها كائنًا حرًا، قادرًا على التفكير المستقل، وفاعلًا أساسيًا في المجتمع، وليس مجرد تابع لسلطة أبوية أو ضحية لثقافة تمييزية.

إرث لا يُنسى
لم تكن فضيلة مرابط مجرد كاتبة أو مفكرة، بل كانت ضميرًا حيًا في زمنٍ خُيِّر فيه الكثيرون بين الصمت والمجاملة، فاختارت أن تقول الحقيقة، بكل ما تحمله من ثقل ووجع. تجاوزت حدود التوصيفات التقليدية، فكانت من أوائل النساء الجزائريات اللواتي مزجن بين الكتابة والفعل، بين القلم والموقف، بين الفكر الجريء والنضال الميداني. في زمن كانت فيه الجرأة تُحسب على صاحبها لا له، رفعت صوتها عاليًا في وجه كل أشكال الإقصاء والوصاية، وجعلت من تمردها فعلاً نسويًا واعيًا، لا شعارًا عابرًا. لم تختر السهولة ولا الاصطفاف، بل دفعت ثمن مواقفها عزلةً، “وملاحقةً، ونفيًا، وظلت وفية لرسالتها:” أن تُكتب المرأة الجزائرية بيدها، لا بعيون الآخرين.

بوفاتها، لا تفقد الجزائر مجرد اسم كبير في المشهد الأدبي، بل تخسر ذاكرة حية ناطقة بتفاصيل مجتمعها، ومرآة نقدية لطالما عكست تناقضاته وأحلامه المجهضة. إن إرث فضيلة مرابط ليس مجرد مؤلفات، بل مسار حياة كاملة تجسدت فيها شجاعة الكلمة، وقوة القناعة، وعمق الإيمان بالحرية والكرامة. ستبقى كتبها شاهدة على زمن أراد أن يُقصي النساء عن المشهد، لكنها أصرت أن تكون فيه، وبقوة. ستُقرأ نصوصها كما تُقرأ السِيَر، وكما تُتداول الوصايا الكبرى، لأنها لم تكن تكتب لتملأ الرفوف، بل لتوقظ الضمائر.

وداعًا فضيلة مرابط، المرأة التي كتبت ما لم يجرؤ كثيرون على التفكير فيه. وداعًا لصوت نسائي حر، سيظل حيًا في الذاكرة، مهما طال الغياب.
.

Related posts

منى بشناق.. ترسم الأدب بخيالها

كاتبة جزائرية خلعت مذكرات الأمير هاري من الانترنت؟

القفطان الجزائري عبر العصور والحضارات

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More