أثار مقطع فيديو تم تداوله مؤخرًا عبر منصات التواصل الاجتماعي في الجزائر موجة من الغضب والاستنكار، حيث يُظهر رجلًا يُعنّف طفلًا بطريقة عنيفة يُعتقد أنها وقعت داخل إطار أسري. وعلى غير العادة، لم يمرّ المشهد في صمت، بل سارع العديد من المواطنين إلى نشر الفيديو والتبليغ عنه، مطالبين بتدخل عاجل من الجهات الأمنية لحماية الطفل ومحاسبة الجاني.
هذا التفاعل الشعبي يُعدّ مؤشرًا إيجابيًا على ارتفاع منسوب الوعي المجتمعي بحقوق الطفل، وعلى رفض واضح لكل أشكال العنف الأسري. ومع ذلك، فإن هذه الحادثة تسلط الضوء على ثغرات هيكلية لا تزال قائمة في منظومة الحماية الطفولية بالجزائر.
العنف الأسري ليس “تأديبًا”… بل انتهاكٌ صارخ
يعدّ تعنيف الأطفال داخل الفضاء الأسري، تحت مسمى “التهذيب” أو “السلطة الأبوية”، ممارسةً بالغة الخطورة تتجاوز حدود الأذى الجسدي لتطال التوازن النفسي والتطور العاطفي للطفل. فالمنزل الذي يُفترض أن يكون فضاءً آمناً للحماية والرعاية، يتحول في مثل هذه الحالات إلى مصدر دائم للخوف والتهديد، مما يُعرقل بناء شخصية الطفل ويُقوّض ثقته بنفسه وبالآخرين.
هذا النمط من العنف لا يمكن تبريره بأي مبرر ثقافي أو تقليدي، بل يُعدّ انتهاكًا صارخًا لحقوق الطفل، كما نصّت عليه الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادقت عليها الجزائر، وكما ورد في التشريع الوطني، خصوصًا المادة 266 مكرر من قانون العقوبات التي تُجرّم الإيذاء الجسدي والنفسي الممارس ضد القُصّر، حتى لو صدر عن أحد الوالدين أو الولي الشرعي.
من الناحية الأخلاقية والدينية، يُدين الدين الإسلامي أي سلوك مؤذٍ يُلحق الأذى بالأبناء، مؤكدًا على الرحمة، والرفق، والتوجيه بالحكمة، لا العنف والإكراه. أما من الناحية التربوية، قد أثبتت العديد من الدراسات النفسية أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف داخل أسرهم هم أكثر عرضة للإصابة باضطرابات سلوكية وعاطفية، حيث تُسجَّل لديهم نسب أعلى من القلق، والاكتئاب، والانطواء، وحتى ميول عدوانية قد تظهر لاحقًا في علاقاتهم الاجتماعية. كما تشير منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر سنة 2016 بعنوان “INSPIRE: Seven strategies for ending violence against children” إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف، سواء الجسدي أو النفسي، يكونون أكثر قابلية للانخراط في سلوكيات عنيفة مستقبلًا، سواء كضحايا أو كجناة. هذه النتائج تؤكد أن آثار العنف الأسري لا تتوقف عند لحظة الأذى، بل تترك بصمة عميقة في مسار نمو الطفل النفسي والاجتماعي.
إن الإبقاء على العنف داخل الأسرة تحت غطاء “الخصوصية العائلية” أو “الحق في التأديب” يُعدّ تواطؤًا غير مباشر، ويساهم في تطبيع الانتهاك داخل المجتمع. ولهذا، فإن حماية الأطفال من العنف الأسري ليست مجرد مسألة قانونية، بل مسؤولية أخلاقية وتربوية جماعية، تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند حدود الدولة.
الإطار القانوني بين النصوص والواقع: حماية قانونية على الورق… وواقع يتطلب إصلاحًا عميقًا
ينص قانون العقوبات الجزائري على مجموعة من الأحكام التي تُجرّم العنف ضد القُصّر، لا سيما المادة 266 مكرر، التي تفرض عقوبات جزائية على من يرتكب عنفًا جسديًا أو نفسيًا ضد طفل، حتى إن كان من أفراد أسرته. كما تُشدَّد العقوبات في حال ترتب عن العنف أضرار جسيمة أو وفاة.
ورغم وجود هذا الإطار التشريعي، إلا أن الفجوة بين النص والتطبيق لا تزال قائمة، بسبب عدة عراقيل ميدانية، منها:
-
ضعف التبليغ، خاصة حين يكون المعتدي من داخل الأسرة، في ظل ثقافة مجتمعية تُضفي شرعية على “العقاب الجسدي” باسم التربية؛
-
محدودية فاعلية آليات التبليغ القائمة، مثل الخط الأخضر 1111، رغم أهميته كوسيلة رسمية للإبلاغ، إلا أن التوعية به تبقى ضعيفة، والاستجابة ليست دائمًا في مستوى خطورة الحالات؛
-
غياب التنسيق الميداني المستمر بين الفاعلين الرئيسيين (الشرطة، النيابة، قطاع الصحة، المؤسسات التعليمية، المجتمع المدني)؛
-
نقص التكوين المتخصص للمهنيين حول كيفية التعرف على علامات العنف والتعامل معها بشكل سليم وفقًا لمصلحة الطفل؛
-
غياب منظومة تدخل طارئة تُمكّن من حماية الطفل بسرعة وبشكل مؤقت ريثما يتم التحقيق.
-
وهكذا، لا يمكن أن تُترجم الحماية القانونية إلى واقع فعلي إلا من خلال آليات تنفيذ ميدانية فعالة، واستجابات مؤسسية سريعة، ورؤية سياسية تضع حقوق الطفل في قلب السياسات العامة.
وسائل التواصل الاجتماعي: من التوثيق إلى التحرك… لكن بمسؤولية
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة فعالة لكشف الانتهاكات وتوثيق التجاوزات التي قد تمرّ في صمت داخل الفضاءات الخاصة، كما هو الحال مع حوادث العنف الأسري. وفي هذه الواقعة تحديدًا، لعبت هذه المنصات دورًا محوريًا في كسر جدار الصمت، وتعبئة الرأي العام، ودفع السلطات إلى التحرك، بفضل الضغط الشعبي الذي تولد من تداول الفيديو والمطالبة بمحاسبة المعتدي.
لكن هذا الدور الإيجابي لا يُعفي من ضرورة التحلي بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية عند نشر مثل هذه المقاطع، خصوصًا عندما تتعلق بأطفال في وضعية هشاشة. فالمحتوى العنيف والحسّاس يجب أن يُنشر بطريقة تحفظ كرامة الضحية، وتحمي هويته، وتتفادى أي وصم اجتماعي قد يلاحقه لاحقًا. ومن هنا، يصبح طمس وجه الطفل، وتوجيه النشر نحو المطالبة بالعدالة بدل الإثارة، أمرًا جوهريًا.
علاوة على ذلك، فإن الاستخدام غير الواعي أو العشوائي لمثل هذه المواد قد يؤدي إلى تطبيع العنف أو تحويله إلى مادة استهلاكية، بدل أن يكون وسيلة للضغط والمساءلة. لذلك، تبرز الحاجة الملحة إلى صياغة مدوّنة سلوك رقمية، وتكوين النشطاء والمواطنين في مبادئ التبليغ الرقمي الآمن، وأخلاقيات التعامل مع المحتوى المرتبط بانتهاكات حقوق الطفل.
تكشف هذه الحادثة المؤلمة – التي تم توثيقها ومشاركتها من قبل مواطنين واعين ومسؤولين – عن حجم التحديات التي لا تزال تعترض حماية الطفولة في الجزائر، رغم وجود ترسانة قانونية ومؤسسات رسمية مكلفة بهذا الدور. وبينما يُظهر المجتمع المدني والمواطنون يقظة متزايدة ورفضًا علنيًا للعنف، فإن هذه الجهود لا يمكن أن تُؤتي ثمارها إلا إذا رافقتها إرادة سياسية واضحة، واستجابة مؤسساتية فعالة، وآليات تنسيق عاجلة وشاملة.
إن حماية الطفل من العنف ليست خيارًا، بل واجب وطني وأخلاقي، لا يحتمل التساهل أو التأجيل. فكل طفل مُعنّف هو جرح مفتوح في جسد المجتمع، وكل تقاعس عن حمايته هو انتهاك صريح لمبادئ العدالة والكرامة الإنسانية.
لقد دقّت هذه الحادثة ناقوس الخطر مجددًا. والمسؤولية اليوم مشتركة بين الدولة، والمجتمع المدني، والأسرة، والإعلام، والمواطنين. وحده التحرك الجماعي المنظم، القائم على الوقاية، والرصد، والمساءلة، والمرافقة النفسية والاجتماعية، يمكن أن يضع حدًا لهذا العنف المتجذر ويؤسس لثقافة حماية حقيقية ومستدامة لأطفالنا.