قراءة متأنية لزيارة الرئيس تبون لإيطاليا : شراكة اقتصادية وصراع نفوذ يربك باريس

أثارت زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قبل أيام، إلى إيطاليا، ردود فعل متباينة، خاصة داخل الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، لا سيما لدى التيارات اليمينية المتطرفة. وقد جاء هذا التفاعل الغاضب عقب الاستقبال الرسمي والراقي الذي حظي به تبون من قبل نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، والذي عُدّ دليلاً على قوة العلاقات الجزائرية الإيطالية المتنامية.

وتكتسب الزيارة أهمية مضاعفة لكونها الثانية من نوعها إلى إيطاليا منذ تولي الرئيس تبون سدة الحكم في نهاية عام 2019، وقد حملت في طياتها رمزية دبلوماسية قوية. ففي لفتة بروتوكولية لاقت صدى واسعًا، أهدى تبون باقة ورد ملونة لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، انسجمت ألوانها مع أزيائها المشرقة وحيويتها اللافتة، في مشهد فسّره البعض على أنه رسالة رمزية تعكس الاحترام المتبادل والانفتاح الجزائري على الشركاء الأوروبيين بعيدًا عن الأطر التقليدية.

نتائج اقتصادية غير مسبوقة

في سياق الزيارة، عُقدت القمة الحكومية الخامسة رفيعة المستوى بين الجزائر وإيطاليا، وجمعت بين الرئيس تبون ورئيسة الوزراء ميلوني، بحضور عدد من وزراء وممثلي حكومتي البلدين. وأسفرت القمة عن توقيع أكثر من 40 اتفاقية ومذكرة تعاون بقيمة تفوق 12 مليار دولار، شملت قطاعات الطاقة، الصناعة، التكنولوجيا، التحول الطاقوي، التعليم، الأمن الغذائي، والزراعة. واعتبر محللون هذه النتائج “الضربة الثانية” لمعارضي التقارب الجزائري الإيطالي.

واختُتمت الزيارة بلقاء تاريخي جمع تبون بالبابا فرنسيس في الفاتيكان، في خطوة مثّلت “الضربة الثالثة”، لما لها من دلالات دينية وسياسية قوية، تُفنّد روايات متداولة في بعض الأوساط الغربية عن “انعزالية الجزائر” أو “راديكاليتها”.

قلق فرنسي واسع وتغطية إعلامية مشحونة

إبرام هذه الاتفاقيات الاستراتيجية أثار حفيظة الإعلام الفرنسي، الذي اعتبرها نجاحًا دبلوماسيًا باهرًا للجزائر، أربك أطرافًا تقليدية في باريس والرباط. قناة CNews اليمينية خصصت تغطيات مطوّلة، حيث وصف المحلل لويس دو راغونال الزيارة بأنها “مؤلمة ومهينة لفرنسا”، مؤكدًا أن ميلوني “تتصرف باستقلالية تامة ولا تأبه بالامتعاض الفرنسي”، ما يعكس بداية تحول جيواستراتيجي في البحر المتوسط.

صحيفة Le Monde بدورها، تحدثت عن “لحظة تحوّل” في ميزان القوى بالمنطقة، مشيرة إلى أن إيطاليا استفادت بذكاء من فتور العلاقات بين الجزائر وفرنسا، لتعزز موقعها كممر استراتيجي للطاقة نحو أوروبا، وسط بحث دول الاتحاد عن بدائل للغاز الروسي.

أما France 24 فقد أكدت أن زيارة تبون تعكس “علاقات مزدهرة” تشمل الطاقة والدفاع والهجرة، مقابل “جمود شبه تام” في العلاقات الجزائرية الفرنسية، حيث لم يحقق الحوار الثنائي أي تقدم يُذكر منذ أكثر من عامين.

إعلام عربي وفرنكوفوني… بين الترحيب والتحفظ

الإعلام العربي تفاعل مع الزيارة بشكل لافت. فقد نشرت قنوات مثل الجزيرة والميادين تحليلات تشيد بالدبلوماسية الجزائرية “المتحررة من الهيمنة الفرنسية”، معتبرةً أن الجزائر بصدد “إعادة تموضع ذكي” يعكس ثقة متزايدة في القرار السيادي الوطني.

أما الصحافة المغاربية، فقد تباينت مواقفها. بعض الصحف المغربية مثل هسبريس و360.ma اعتبرت أن الجزائر تحاول “تسويق انتصارات دبلوماسية وهمية”، مشيرة إلى أن موقف روما من ملف الصحراء لم يتغير، وأن ميلوني تجنبت تمامًا الحديث عن “تقرير المصير” خلال المؤتمر الصحفي المشترك.

في المقابل، أثنت الصحافة التونسية على الدور الإقليمي المتصاعد للجزائر، واعتبرته فرصة لتعزيز الاستقرار في شمال إفريقيا، خاصة في ظل التقلبات الجيوسياسية المتسارعة.

أما الصحف الفرنكوفونية في إفريقيا، مثل Jeune Afrique وLe Point Afrique، فقد قدمت قراءة مركبة، حيث اعتبرت أن الجزائر تُحقق تقدمًا فعليًا في ملف الشراكات الاقتصادية، لكنها “لم تُحقق بعد اختراقًا دبلوماسيًا صريحًا في الملفات الشائكة، كملف الصحراء الغربية والهجرة”.

تراجع النفوذ الفرنسي؟

يرى مراقبون أن فرنسا تجد نفسها اليوم في موقف دفاعي، بعدما كانت اللاعب المهيمن تقليديًا في المغرب العربي. فـ”الصمت الرسمي الفرنسي” تجاه زيارة تبون، رغم أهميتها، يعكس نوعًا من الإرباك أو حتى الإحباط، حسب تعبير الخبير الجيوسياسي برنار كوهين حداد، الذي صرّح بأن “باريس تدفع ثمن تجاهلها المتكرر لمطالب الجزائر، خصوصًا في ما يتعلق بالصحراء الغربية والذاكرة الاستعمارية”.

كوهين حداد، رئيس مركز “مارسيل إيتيان”، أضاف في مقابلة مع L’Opinion:

“إيطاليا تمارس ذكاءً دبلوماسيًا لافتًا، وتتحوّل تدريجيًا إلى الشريك الأول للجزائر داخل الاتحاد الأوروبي، بينما ماكرون غارق في سياسات داخلية مرهقة وخطابات قيم لم تعد تقنع أحدًا”.

الصحافة التقليدية… تغطية انتقائية

بينما ركزت صحف فرنسية كـ Europe 1 وLibération على الجانب الاقتصادي للزيارة، تجاهلت في معظم تقاريرها الأبعاد السياسية والرمزية للقاء البابا، والانفتاح الجزائري على أوروبا بعيدًا عن الإملاءات التقليدية. وقد رأى محللون أن هذا التجاهل مقصود، ويهدف إلى تقليل وقع الرسائل الرمزية التي وجهتها الجزائر للعالم من خلال هذه الزيارة.

في المحصلة، تمثّل زيارة تبون إلى إيطاليا عكست توجّهًا جزائريًا لإعادة رسم خارطة الشراكات الأوروبية، مستفيدًا من ظرف دولي يشهد تقلبات طاقوية وأزمات هجرة مستمرة في المقابل، وجدت إيطاليا فرصة لقيادة دبلوماسية جنوبية جديدة في ظل تراجع الثقة الأوروبية في الدور الفرنسي التقليدي في شمال إفريقيا بين البترول والكابل البحري، وبين الهجرة ومكافحة الإرهاب، برزت الجزائر كمحور توازن، وهو ما قد يُعيد تموقعها كقوة إقليمية ذات صوت سيادي واستقلالي في هندسة الشراكات المتوسطية. وبالتالي، يظهر أن زيارة تبون إلى روما لم تكن زيارة عابرة، بل علامة فارقة في السياسة الجزائرية الإقليمية، وأطلقت رد فعل إعلاميًا فرنسيًا عكس حقيقة التحول في توازن العلاقات – من النفوذ الفرنسي نحو ديناميكية شراكة إيطالية متنامية. وجاءت زيارة تبون بعد إعلان المفوضية الأوروبية اللجوء إلى التحكيم بخصوص اتفاق الشراكة مع الجزائر، وهي خطوة قيل إن فرنسا كانت وراءها.لكن توقيع اتفاقيات إستراتيجية بين الجزائر وإيطاليا فُسّر في فرنسا على أنه ضربة لمحاولة باريس جر الاتحاد الأوروبي إلى موقف موحّد ضد الجزائر.

Related posts

السيدة الوزيرة تترأس اجتماعًا تنسيقيًا لمناقشة جملة من الملفات على رأسها التحضيرات للدخول الاجتماعي والمدرسي المقبلين

السيدة الوزيرة تؤكد أن دعم و مرافقة المرأة في صلب اهتمامات قطاع التضامن الوطني

السيدة الوزيرة تقوم بزيارة عمل وتفقد إلى ولاية عين قزام

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More