قضية الطفل ياسين: عدالة متأخرة ونضال أم لم ينكسر

في عام 2024، شهدت مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة قضية أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والتعليمية، وذلك عقب اتهام موظف مالي يبلغ من العمر 79 عامًا، يعمل مشرفًا على الشؤون المالية والإدارية بإحدى المدارس الخاصة التابعة للمطرانية، بارتكاب جريمة هتك عرض الطفل ياسين، البالغ من العمر خمس سنوات

بداية القضية والتحقيق الأولي
بدأت القضية عندما لاحظت والدة الطفل تغيّرات واضحة في سلوكه، مثل الخوف المتزايد من الذهاب إلى المدرسة، واضطرابات في نومه، وتدهور حالته النفسية. وصعوبة دخوله الحمام، بعد محاولات عديدة لفهم السبب، كشف الطفل عن تعرضه لاعتداءات متكررة داخل حمّام المدرسة وأحيانًا داخل سيارة قديمة مركونة في مرأب المدرسة.

عقب هذا التصريح الصادم، تقدمت الأم ببلاغ رسمي إلى النيابة العامة، التي باشرت التحقيق فورًا. شمل التحقيق استجواب والدة الطفل، إدارة المدرسة، والعاملين فيها، بالإضافة إلى زملائه في الفصل الدراسي. ورغم خطورة الادعاءات، نفت جميع الشهادات وقوع الاعتداء، مما دفع النيابة إلى حفظ التحقيقات الأولية بدعوى “عدم كفاية الأدلة”.

إعادة فتح التحقيق بناءً على أدلة جديدة

لم تستسلم والدة الطفل لقرار حفظ التحقيق، وتقدمت بتظلم رسمي إلى النيابة العامة مدعومًا بأدلة جديدة، من بينها شهادة موظفة سابقة في المدرسة، أكدت صحة رواية الطفل. بناءً على هذه المستجدات، قررت النيابة إعادة فتح التحقيق، وتمت مواجهة مباشرة بين الطفل والمتهم، حيث تمكن الطفل من التعرف عليه في مناسبتين من خمس، مما عزز موقف الادعاء العام.

ورغم ذلك، أُعيد حفظ القضية مرة أخرى لعدم كفاية الأدلة، ما دفع الأم إلى الاستعانة بمحاميها، الذي استند إلى نصوص قانونية تتيح التظلم أمام محكمة الجنايات. وبعد دراسة ملف القضية، قررت المحكمة في مارس 2025 إحالة المتهم إلى المحاكمة الجنائية بتهمة هتك العرض، وسط متابعة إعلامية ومجتمعية واسعة.

المتورطون في الجريمة
أثناء التحقيقات، كشفت النيابة العامة عن تورط بعض العاملين في المدرسة في التستر على الجريمة. وفقًا لتقرير النيابة، تبين أن عاملة النظافة كانت تساعد الجاني على مدار عام كامل في استدراج الطفل إلى سيارة مهجورة في الساحة الخلفية، ليعتدي عليه فيها. كما كشفت التحقيقات أن مديرة المدرسة وفاء إدوارد كانت على علم بالوقائع منذ البداية لكنها لم تتحرك للإبلاغ عنها، مما أدى إلى توجيه تهم إضافية لها تتعلق بالتقصير في الإبلاغ عن الجريمة.

تقرير الطب الشرعي

أشار تقرير الطب الشرعي إلى عدم وجود إصابات جسدية واضحة، لكنه كشف عن اتساع بقطر حوالي 1 سم في فتحة الشرج عند إبعاد الإليتين. وأوضح التقرير أن هذا الاتساع قد يكون ناتجًا عن الإيلاج أو محاولة إيلاج، لكنه بمفرده لا يُعتبر دليلًا قاطعًا على حدوث اعتداء جنسي كامل. كما لفت الطبيب الشرعي إلى وجود أسباب أخرى قد تؤدي إلى هذا الاتساع، مثل الأنيميا، الهزال، ضعف العضلات، أو بعض الأمراض العصبية، لكنه أكد أن الطفل لم يكن يعاني من أي من هذه الحالات وقت الفحص.

ورغم الجدل الذي أثاره التقرير، قررت النيابة العامة إحالة القضية إلى محكمة الجنايات، مستندةً إلى شهادة الطفل، المواجهات القانونية، وبعض القرائن الأخرى غير الجسدية، التي قد تُطرح خلال المحاكمة.

يوم الجلسة: طفل في زي “سبايدر مان” ومرافعة أم أمام العدالة

في 30 أبريل 2025، مثل المتهم أمام محكمة جنايات دمنهور. دخل الطفل ياسين القاعة مرتديًا زي “سبايدر مان”، وهي صورة التقطها الإعلام ووسائل التواصل كرمز للقوة في وجه الخوف. الأم كانت حاضرة، قوية، ثابتة، وقدّمت مرافعة شفويةمأثرة

استمعت المحكمة إلى تفاصيل القضية من جديد، واطّلعت على تطور حالة الطفل النفسية، وشهادات موثقة بشأن أيام تغيّبه عن المدرسة، التي تزامنت مع تواجد المتهم داخل المؤسسة التعليمية. كما لاحظت المحكمة اتساقًا بين رواية الطفل ورواية والدته التي حافظت على سرد متماسك للأحداث منذ تقديم البلاغ الأول.

بناءً على هذه المعطيات، قررت المحكمة تعديل القيد والوصف القانوني من “الاعتداء بغير عنف” إلى “هتك عرض باستخدام القوة والتهديد”، ثم أصدرت حكمًا بالسجن المؤبد لمدة 25 عامًا ضد المتهم، في حكم وصفه مختصون في القانون بـ”السابق” في قضايا الاعتداءات على الأطفال داخل المؤسسات التعليمية.

نضال أم: معركة استمرت 14 شهرًا بين المحاكم والشارع

خلف هذا الحكم، تقف قصة نضال استثنائية خاضته والدة الطفل، التي لم تكتفِ بالتبليغ، بل واكبت الملف في أدق تفاصيله القانونية، وواجهت محاولات طيّ الملف إداريًا أو التسوية خارج القضاء. رفضت تصريحات النفي المتكررة، ومارست حقها القانوني كاملاً حتى آخر وسيلة متاحة.

لأكثر من عام، تنقلت بين النيابة، الطب الشرعي، جلسات التحقيق، ومكاتب المحامين. جمعت الشهادات، واستخرجت أدلة سلوكية، ورفضت الرضوخ لأي تسوية ودّية، رغم تدخل وسطاء من داخل المؤسسة التعليمية لإقناع الأسرة بالتنازل.

بحسب تصريحات مقربين منها، لم يكن الدافع شخصيًا أو انتقاميًا، بل إيمانًا بضرورة تحصين المؤسسات التربوية من أي شكل من أشكال العنف الجنسي، خاصة عندما يكون الطفل الضحية غير قادر على التعبير أو الدفاع عن نفسه. لقد رفعت الأم سقف التوقعات لما يمكن أن تفعله الأسرة، ليس فقط بالحب، بل بالوعي القانوني والإصرار المدني.

تفاعل الرأي العام ومواقع التواصل: تضامن ومطالب بالإصلاح

فور صدور الحكم، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي موجة تضامن واسعة مع الأسرة، وانهالت رسائل الدعم للأم التي وصفها النشطاء بـ”البطلة الحقيقية” في مواجهة منظومة لا تعترف بسهولة بحقوق الأطفال. وانتقد كثيرون بطء الإجراءات، والتساهل الأولي في التحقيق، وغياب الرقابة داخل المدارس الخاصة، مطالبين بفتح ملفات مماثلة قد تكون طُمست في غياب إعلام أو دعم حقوقي.

من جهة أخرى، أثارت القضية نقاشًا موسعًا حول ضرورة وجود وحدات حماية داخل المؤسسات التعليمية، وتفعيل آليات الإبلاغ داخل المدارس الخاصة، وتكوين لجان رقابة تربوية مستقلة قادرة على التدخل السريع في حالات الشبهات المتعلقة بالأطفال.

مع أن القضية انتهت قانونيًا بالحكم بالسجن المؤبد، إلا أن آثارها لم تنتهِ بعد. وزارة التربية والتعليم كانت قد أعلنت في إبريل 2024 عن فتح تحقيق داخلي وتشكيل لجنة لتقييم أداء المدرسة المعنية، إلا أن النتائج لم تعلن بعد للرأي العام. وفي 1 مايو 2025، فرضت الأجهزة الأمنية طوقًا حول المدرسة وبدأت لجنة رقابية أعمال مراجعة دقيقة لآليات العمل داخل المؤسسة.

Related posts

150 يومًا مدفوعة وامتيازات إضافية: وزارة العمل تعزز حقوق الأمهات العاملات

فيديو صادم يهزّ الرأي العام:

السعودية: مناهل العتيبي تواجه حكمًا بالسجن 11 عامًا وسط دعوات حقوقية متصاعدة للإفراج عنها

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More