كان 2025: سينما المقاومة والهوية بين السياسة والإنسانية

في ختام الدورة الـ78 لمهرجان كان السينمائي الدولي، الذي احتضنته مدينة كان الفرنسية بين 14 و25 ماي 2025، توج الفيلم الإيراني “مجرد حادث” للمخرج جعفر بناهي بالسعفة الذهبية، أعلى جوائز المهرجان، في لحظة مؤثرة عكست دعم المهرجان المتجدد للفن المقاوم وحرية التعبير في وجه الرقابة السياسية.

عودة بناهي إلى الضوء بعد سنوات من القمع

هذا التتويج يُعدّ تتويجًا لمسار فني طويل وشجاع خاضه بناهي، الذي مُنع من التصوير والسفر منذ عام 2010، بسبب مواقفه النقدية للنظام الإيراني. بعد رفع حظر السفر عنه عام 2023، تمكن من الحضور إلى مهرجان كان لأول مرة منذ أكثر من 15 عامًا، حيث استُقبل بحفاوة كبيرة.

تم تصوير “مجرد حادث” سرًّا، من دون ترخيص رسمي من السلطات الإيرانية، وبمشاركة عدد من الممثلات اللواتي ظهرن من دون حجاب، في تحدٍّ صارخ لقوانين الجمهورية الإسلامية.

الفيلم يحكي قصة رجل يعيش عزلة اختيارية، قبل أن تعيده سلسلة من الحوادث إلى ماضيه الثقيل، حيث تتقاطع أسئلة العدالة والهوية والانتقام.

وقد قالت رئيسة لجنة التحكيم، الممثلة جولييت بينوش، في كلمتها خلال تسليم الجائزة: “الفن ليس ترفًا، بل طاقة خلاقة تُخرج أفضل ما فينا، وتحوّل الظلمة إلى أمل وتسامح”.

“كعكة الرئيس”: الكاميرا الذهبية للعراقي حسن هادي

من أبرز لحظات التتويج في مهرجان كان السينمائي لعام 2025، كان فوز الفيلم العراقي “كعكة الرئيس” للمخرج الشاب حسن هادي بجائزة الكاميرا الذهبية، التي تُمنح لأفضل عمل أول يُعرض في المهرجان.
يروي الفيلم قصة فتاة صغيرة تُجبر على تحضير كعكة عيد ميلاد للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، في سرد سينمائي رمزي يتقاطع فيه عالم الطفولة بالسلطة، والخوف بالحلم، والبساطة بالرعب.
وقد أثار الفيلم إعجاب النقاد الذين أشادوا بأسلوبه البصري الرشيق، وعمق معالجته الرمزية، مؤكدين أن حسن هادي يعلن من خلال هذا العمل عن ميلاد صوت سينمائي جديد من المنطقة العربية، يمتلك الجرأة والخيال والبصمة الخاصة.

الجوائز الكبرى: تنوع في الأساليب وعمق في المواضيع

عكست الجوائز الكبرى لمهرجان كان السينمائي 2025 تنوعًا لافتًا في الأساليب السينمائية وعمقًا في الطرح الإنساني والفلسفي. فقد نال الفيلم النرويجي “القيمة العاطفية” للمخرج يواكيم ترير الجائزة الكبرى (Grand Prix)، حيث قدّم من خلاله معالجة تأملية لعلاقات العائلة، والحنين إلى الماضي، والسعي للمصالحة مع الذات.

أما جائزة لجنة التحكيم فقد تم تقاسمها بين فيلم “سيرات” للمخرج الإسباني أوليفر لاكس، وفيلم “صوت السقوط” للمخرجة الألمانية ماشا شيلينسكي، وكلا العملين تميّزا بطرح وجودي عميق، ومقاربات سينمائية مبتكرة تتجاوز السرد الكلاسيكي، لصالح لغة بصرية تتأمل المعاناة والقلق الإنساني من منظور فلسفي بحث

التمثيل والسيناريو: أداء لافت وقضايا شائكة

برزت جوائز التمثيل هذا العام بتكريم أعمال جريئة تناولت قضايا مجتمعية معقدة. فقد نالت نادية مليتي جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم “الأخت الصغيرة” للمخرجة حفصية حرزي، حيث جسدت شخصية فتاة مسلمة تواجه صراع الهوية الجنسية داخل مجتمع محافظ، في أداء مؤثر أثار نقاشًا واسعًا بين الإشادة والجدل.

أما جائزة أفضل ممثل فذهبت إلى فاغنر مورا، الذي تألق في فيلم “العميل السري”، مجسدًا شخصية معقدة تعيش تحت وطأة الرقابة السياسية خلال حقبة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل. وقد أضاف فوزه بعدًا آخر لتألق الفيلم، الذي نال أيضًا جائزة أفضل إخراج للمخرج كليبر ميندونسا فيلهو.

الجوائز الخاصة: من الهوية إلى التكنولوجيا

ج

ميزت الجوائز الخاصة في دورة هذا العام بتنوعها الموضوعي والجغرافي، حيث كرّمت أعمالًا تسلط الضوء على قضايا الهوية والذاكرة والابتكار. فقد نال فيلم “الأخت الصغيرة” للمخرجة حفصية حرزي جائزة كوير بالم، اعترافًا بجرأته في طرح مسألة الهوية الجنسية ضمن السياق المغاربي المحافظ.

أما جائزة العين الذهبية للأفلام الوثائقية، فذهبت إلى الفيلم المؤثر “إيماجو” للمخرج ديني عمر بيتساييف، الذي غاص في تعقيدات الذاكرة والهوية في مرحلة ما بعد الصراع.

وفي فئة الوثائقي أيضًا، حصد فيلم “رجل الستة مليارات دولار” للمخرج الأمريكي يوجين جاريكي جائزة لجنة التحكيم الخاصة، لتناوله العلاقة المتوترة بين التكنولوجيا والطبيعة الإنسانية.

واحتفى المهرجان بروح الدعابة والحنان من خلال جائزة “بالم دوج”، التي تقاسمها فيلما “الباندا” و**”الحب الباقي”**، تقديرًا لأفضل أداء لحيوانات على الشاشة، في لفتة محببة تسلط الضوء على دور “الرفاق غير البشريين” في السرد السينمائي.

غياب أمريكي لافت: رسالة نقدية؟

لوحظ غياب الأفلام الأمريكية الكبرى عن قائمة الجوائز هذا العام، رغم المشاركة القوية لأسماء مثل خواكين فينيكس وجينيفر لورانس. لم يحصد فيلم “إدينغتون” للمخرج آري أستر ولا “داي ماي لوف” للمخرجة لين رامساي أي تتويج.

يبدو أن لجنة التحكيم، التي ضمت نجومًا مثل جيريمي سترونغ وهالي بيري، فضّلت أفلامًا جريئة فكريًا ومن حيث الشكل السينمائي، على حساب الإنتاجات السائدة في هوليوود.

من جعفر بناهي إلى “العميل السري”، ومن حفصية حرزي إلى “رجل الستة مليارات دولار”، حملت هذه الدورة طابعًا سياسيًا وإنسانيًا واضحًا، يؤكد أن مهرجان كان لا يزال منصة لحرية التعبير، ومكانًا للاعتراف بالسينما كقوة فنية تقاوم الصمت.

عرض خاص: فاطمة حسونة تفتح جراح غزة بعدستها

ضمن العروض الخاصة التي شهدها مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78، تم عرض فيلم المصوّرة الصحافية الفلسطينية فاطمة حسونة، الذي حمل عنوانًا رمزيًا “تفتح جراح غزة”. الفيلم الوثائقي، الذي أُنجز بجهد شخصي وسط ظروف إنسانية وأمنية صعبة، يستعرض الحياة اليومية لسكان غزة تحت الحصار، من خلال عدسة حسونة التي تحوّلت إلى أداة مقاومة وصوت إنساني ينقل معاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم. بأسلوب بصري مؤثر، يسلّط الفيلم الضوء على الأثر النفسي والاجتماعي للحروب المتكررة، ويُبرز صمود النساء والأطفال في مواجهة الدمار. وقد نال العمل تصفيقًا طويلًا بعد عرضه، وأشاد به النقاد كوثيقة صادمة وصادقة تنقل الحقيقة بعيدًا عن الخطابات السياسية، مؤكدين أهمية الفن في توثيق الذاكرة الجماعية للشعوب المنكوبة.

تحية إلى رواد السينما: “سنين الجمر” وخالدون في ذاكرة كان

في لمسة وفاء وتكريم لتاريخ السينما العربية والإفريقية، عرض مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78 فيلم “سنين الجمر” للمخرج الجزائري الراحل محمد لخضر حامينة، وذلك بمناسبة الإعلان عن وفاته. يُعد هذا الفيلم، الذي توّج بالسعفة الذهبية عام 1975، العمل العربي والإفريقي الوحيد الحاصل على هذه الجائزة الرفيعة حتى اليوم. وقد شكّل العرض لحظة مؤثرة استُحضرت فيها رمزية الفيلم كمرآة لنضال الشعوب من أجل الحرية، وإرث فني لا يزال يحتفظ براهنيته. “سنين الجمر”، الذي يسرد مراحل الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، قدّم في مهرجان 2025 كتذكير بمكانة السينما الملتزمة في التاريخ الثقافي العالمي، وكرسالة جمالية وسياسية لأجيال جديدة من المبدعين.

غزة في مرآة السينما: “رامبو الفلسطيني” يدخل التاريخ

وفي إطار اهتمام المهرجان بالقضايا الإنسانية الكبرى، تم أيضًا عرض فيلم جديد عن غزة بعنوان “… عندما يدخل رامبو الفلسطيني التاريخ”، وهو عمل استثنائي يجمع بين الواقعي والرمزي. يصور الفيلم قصة شاب غزّي يتحول إلى رمز للمقاومة الشعبية في وجه الاحتلال والظلم، بأسلوب يمزج بين السينما الوثائقية والدراما. وقد اعتُبر الفيلم محاولة فنية جريئة لإعادة صياغة صورة الفلسطيني في المخيال العالمي، بعيدًا عن الصور النمطية، من خلال شخصية مركبة تمثل القوة، والتمرد، والحلم بالكرامة. لاقى الفيلم اهتمامًا واسعًا في المهرجان، خصوصًا لما يحمله من طابع سردي جديد يعيد رسم الحدود بين الواقع والأسطورة، بين الألم والأمل.

Related posts

زياد الرحباني… رحيل العبقري المتمرّد وصوت جيل بأكمله

آمال ماهر تطلق ألبوم “حاجة غير” وسط تفاعل جماهيري واسع: عودة فنية تُكلَّل بالاحتراف

هند صبري في مرمى الجدل بعد دعمها “قافلة الصمود”: بين حملات التخوين ورسائل الانتماء

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Read More