في خطوة أثارت موجة من الجدل والاستنكار في الأوساط الحقوقية الدولية، أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات رسمية على فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بسبب مواقفها الصريحة من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، ومطالبتها بمحاسبة المسؤولين عنه، بمن فيهم قادة أمريكيون وإسرائيليون.
وتأتي هذه الخطوة الأمريكية في ظل تواطؤ سياسي غير مسبوق مع آلة القتل الإسرائيلية، التي تحصد أرواح آلاف الفلسطينيين منذ أكتوبر 2023، بدعم عسكري ومالي وسياسي مباشر من واشنطن.
كما أعلن وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، عبر منصة “إكس”، فرض العقوبات على ألبانيز، معتبراً أنها “تتجاوز صلاحياتها، وتحرض المحكمة الجنائية الدولية على ملاحقة قادة أمريكيين وإسرائيليين”، واصفاً تحركاتها بـ”المخزية والمنحازة”.
وفي بيان رسمي لاحق، صعّد روبيو من لهجته، متهماً المقرّرة الأممية بـ”التحيّز الصارخ، ودعم الإرهاب، ومعاداة السامية”، وهي تُهم نمطية دأبت الولايات المتحدة على استخدامها في وجه كل صوت ينتقد السياسات الإسرائيلية. كما زعم أنها أرسلت “رسائل تهديد إلى شركات أمريكية كبرى”، متهمة إياها بالتواطؤ مع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، ودعت إلى مقاضاة مديريها التنفيذيين.
بدوره، عبّر سفير دولة الاحتلال الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة عن دعمه الكامل للعقوبات الأمريكية، مدّعياً أن ألبانيز تقود “حملة تحريض ممنهجة ضد إسرائيل والولايات المتحدة”، وذلك في محاولة واضحة لتشويه دور المقرّرين الأمميين وتفريغ عملهم من محتواه الحقوقي والرقابي.
تنديد منظمة العفو الدولية “أمنستي” بالعقوبات الأمريكية على فرانشيسكا ألبانيز
اعتبرت منظمة العفو الدولية “أمنستي” أن فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، يُعد “إهانة مشينة للعدالة الدولية” و”هجومًا واضحًا ومخزيًا على المبادئ الأساسية للعدالة الدولية”.
وكانت “أمنستي” قد وصفت في مواقف سابقة العقوبات الأمريكية على المحكمة الجنائية الدولية بأنها “خيانة لنظام العدالة الدولية”، مشيرة إلى أنها تبعث برسالة مفادها أن “إسرائيل فوق القانون والمبادئ العالمية للعدالة”، وتوحي بأن إدارة الرئيس ترامب تتبنّى الإفلات من العقاب وتتغاضى عن جرائم الحكومة الإسرائيلية.
وفي تصريح جديد للأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنييس كالامار، أكدت أن العقوبات على فرانشيسكا ألبانيز تمثل “هجومًا صارخًا على العدالة الدولية”، مشددة على أن:
“المقررين الخاصين لا يُعيّنون لإرضاء الحكومات أو لكسب الشعبية، بل لإنجاز المهام المحددة في نطاق ولايتهم. وتتمثل ولاية فرانشيسكا ألبانيز في الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، وهو جُلّ ما نحتاج إليه في وقتٍ أمسى فيه بقاء الفلسطينيين على قيد الحياة على المحك في قطاع غزة المحتل”.
وأوضح البيان أن العقوبات جاءت بعد أيام فقط من نشر فرانشيسكا ألبانيز تقريرًا جديدًا يُفصّل كيف تربّحت الشركات من الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني، ونظام الفصل العنصري الوحشي، والإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
واعتبرت “أمنستي” أن هذه الخطوة تدخل ضمن سلسلة من السياسات الأمريكية التي تهدف إلى ترهيب وإسكات كل من يجرؤ على الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني، مضيفة:
“بدلاً من مهاجمة المقررة الخاصة وتقويض النظام القائم على سيادة القانون، يجب على الحكومة الأمريكية وقف دعمها غير المشروط لإسرائيل، والذي يتيح لها الإفلات من العقاب. ويتعين على الدول أن ترفض بقوة هذه العقوبات المشينة والانتقامية، وأن تمارس أقصى درجات الضغط الدبلوماسي لإلغائها. كما يجب على الأمم المتحدة دعم فرانشيسكا ألبانيز بالكامل بصفتها خبيرة مستقلة عيّنها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة”.
من جانبه، وصف المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة هذه العقوبات بأنها “سابقة خطيرة” و”غير مقبولة”.
أما فرانشيسكا ألبانيز نفسها، فقد ردّت بالقول إن ما يحدث:
“محاولة لتحوير النقاش وتحويله إلى حوار شخصي، أي تشخيص الموضوع، بينما الموضوع الحقيقي هو الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة”.
سجل نضالي في وجه الانتهاكات
تُعد فرانشيسكا ألبانيز من أقوى الأصوات الأممية التي وثّقت ونددت بالجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً مع تصاعد العدوان على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والذي خلّف حتى الآن آلاف القتلى والجرحى، وأدّى إلى تدمير واسع للبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء.
وقدّمت ألبانيز في يوليو الماضي تقريراً أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حمل عنوان “مشاريع استعمارية: دور الشركات في تهجير الفلسطينيين”، سلط الضوء على دور الشركات الغربية، بما فيها الأمريكية، في دعم سياسات الاستيطان والتهجير القسري، في خرق واضح للقانون الدولي.
وفي فبراير 2024، وجهت انتقاداً لاذعاً للمقترح الذي طرحه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن “إدارة أمريكية مباشرة لقطاع غزة بعد تهجير سكانه”، واصفة إياه بأنه “غير قانوني وغير أخلاقي وغير مسؤول”، محذّرة من تداعياته الكارثية على الأمن الإقليمي والدولي.
كما لم تتردد ألبانيز في اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وهو توصيف أصبح متداولاً في عدة محافل دولية، من بينها بلاغات أمام المحكمة الجنائية الدولية، ودعاوى رفعتها دول مثل جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
العقوبات الأمريكية على ألبانيز تكشف عن توجه خطير لتكميم الأصوات المستقلة داخل منظومة الأمم المتحدة، وهو ما أثار قلق عدد من المنظمات الدولية، من بينها هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، اللتين نددتا مراراً بمحاولات الضغط على المقرّرين الأمميين.
ويخشى مراقبون من أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تقويض الثقة الدولية في استقلالية هيئات الأمم المتحدة، وتحويلها إلى أدوات تابعة للقوى الكبرى، بدل أن تكون صوتاً للعدالة والحق.