في زمن تتصارع فيه السينما بين إبهار الخيال وقسوة الواقع، يأتي فيلم ” The End We Start From” ليقدّم مزيجًا نادرًا من التراجيديا الإنسانية والرمزية الوجودية في سردية حسّاسة ومكثّفة، تجربة سينمائية مغايرة، تتجاوز حدود الدراما التقليدية لتغوص في عمق التجربة البشرية. الفيلم، المُقتبس من رواية الصادرة عام 2017، والتي تحمل الاسم ذاته للكاتبة البريطانية ميغان هنتر (Megan Hunter)، يُعدّ تجربة سينمائية عميقة، تستكشف الهشاشة البشرية في مواجهة الكوارث البيئية والانهيار المجتمعي، لكنه في الوقت ذاته يسلّط
الضوء على قوة الحياة وقدرة المرأة على الصمود وسط الركام.
هذا الفيلم ليس فقط عن كارثة بيئية تغمر لندن، بل عن محاولة امرأة لإعادة تعريف معنى النجاة، لا كفعل فردي، بل كفعل أمومي، حيّ نابض، يحمي الحياة من الغرق، ويعيد تشكيلها وسط الفوضى.
قصة الفيلم: أمومة وسط الطوفان
في أداء استثنائي يرتقي إلى مصاف الأعمال الفنية الرائعة، تتألق النجمة البريطانية جودي كومر (Jodie Comer)، مُجسّدة دور “المرأة” — شخصية بلا اسم، كما أرادت الكاتبة والمخرجة، ليس لإغفال هويتها، بل لتحمل دلالات أوسع، كرمز لكل أمة، في كل مكان وزمان. تمثل كومر بصوتها الهادىء وملامحها المعبرة وجسدها المتعب، قامة أمومية تقف في وجه الانهيار، وتحمل الحياة في ذراعيها.
تلد طفلها الأول في لحظة تبتلع فيها مياه الفيضانات العاصمة البريطانية لندن، لتجد نفسها لاجئة في وطنها، مشردة تبحث عن مأوى، عن ماء نظيف، وعن بصيص أمان في عالم ينهار من حولها.
الفيلم ، الذي عُرض لأول مرة في 10 سبتمبر 2023 ، لا يسلك دروب الأكشن أو الكوارث التقليدية. بل يغوص في تفاصيل حميمة، مروّعة في بساطتها: رضاعة في العراء، أرق ليلي، نظرات الشك، وجوه غريبة، مدن غارقة والروابط الإنسانية التي تآكلت. عبر محطات النزوح، تمر البطلة بأماكن ومواقف تمتحن صبرها، وتضع أمومتها أمام أسئلة وجودية عن معنى الأمومة، والبقاء، والإنسانية في عالم ما بعد الكارثة.
وفي قلب هذه الرحلة الشاقة، ينبثق سؤال عميق، يخيّم على كل مشهد: هل يمكن لولادة طفل أن تكون بذرة أمل، بداية جديدة، حتى في قلب الدمار؟
الأمومة كبطولة : حين يُعاد تعريف القوة من رحم الألم ما يلفت في The End We Start From ليس فقط تسليط الضوء على الأمومة، بل إعادة صياغتها كفعل مقاومة مستمر، كقوة خفية تنبع من أعمق نقاط الضعف. لا تُقدَّم الأم في هذا الفيلم بوصفها كائنًا هشًّا بحاجة إلى إنقاذ، ولا كرمز تقليدي للحنان، بل ككيان يتصدّى للكارثة بإرادة صلبة، بصمت، وبلا ضجيج. إنها صاحبة القرار، من يختار الطريق، ويحمل
على كتفيه عبء الحياة واستمرارها، وسط عالم ينهار من حولها. تتحوّل الأمومة هنا إلى بطولة يومية، تتجسّد في التفاصيل: في النظرة الثابتة، في الاحتضان المتكرر، في السهر على طفل لا يدرك ما يدور حوله، لكنها تدرك أن عليه أن ينجو، وأن يكبر في عالم يستحقه. إنها لا تُنقذ فقط، بل تعيد بناء العالم من رماده. المخرجة ماهاليا بيلو، بعدسة أنثوية دقيقة وعميقة، اختارت أن تسرد الحكاية من الداخل: من جسد الأم، من صوتها المرتجف، من نظرتها المرهقة، من يدها التي لا تكلّ. لم يكن الجسد الأنثوي هنا خلفية صامتة أو رمزية مكررة، بل أصبح محور السرد، مصدر النجاة، ونقطة ارتكاز إنسانية تُبنى عليها الحكاية كلها.
في هذا الفيلم، تتحول الأمومة إلى ما يشبه الفعل الثوري الصامت: هدوء في وجه الفوضى، احتضان في قلب العاصفة، واستمرارية للحياة في زمن يتفتت فيه كل شيء.
جماليات الفيلم: حين تتحوّل الصورة إلى قصيدة صامتة في قلب السينما النسوية الحديثة في The End We Start From، لا تتحدث الكاميرا بلغة الوضوح المباشر، بل تهمس بلغة شعرية، هادئة وعميقة، تنقل المشاعر أكثر مما تسرد الأحداث. اختارت المخرجة ماهاليا بيلو أن تصنع عالمًا بصريًا يتناغم مع الداخل المضطرب للبطلة؛ حيث تصبح كل لقطة امتدادًا لنفسيتها، وكل ظل وخفوت في الإضاءة يترجم خوفًا، أملًا، أو مقاومة صامتة. الماء، الذي يغمر المدن ويغمر الحياة، لا يُقدَّم فقط كعنصر مدمر، بل يتحوّل إلى استعارة بصرية للمخاض، للفوضى التي تسبق الولادة، للتجدد الذي يأتي بعد الانهيار. كأن الأمومة تنهض من قلب الفيضانات، من رحم هذا الغرق الجماعي، فتجسّد في آنٍ معًا معنى الكارثة ومعنى الخلاص.
الكاميرا تتحرّك بحساسية مفرطة، تلتقط أدق التفاصيل: نظرة مترددة، رعشة يد، تنفس طفل نائم، صفحة كتاب ابتلتها المياه. هذه التفاصيل البسيطة تُضفي على المشاهد طابعًا حميميًا وشعورًا بالخسارة المتكررة، وكأن العالم يُعاد بناؤه من فتات الذكريات. أما الموسيقى التصويرية، فحضورها يشبه النسيم: نادر، لكنه مؤثّر. لا تفرض نفسها على المشهد، بل تتسلّل بلطف في اللحظات الحرجة، تلامس القلب وتعمّق الإحساس، دون أن تطغى على الصورة.
هذه المقاربة الجمالية تنتمي بوضوح إلى ما يُعرف بالسينما النسوية الحديثة، التي لا تكتفي بإبراز النساء كشخصيات مركزية، بل تمنحهن أيضًا صوتًا بصريًا مستقلًا، وتجربة داخلية تُروى من منظور ذاتي، حسي، وغير نمطي. السينما هنا لا تسرد فقط ما تفعله المرأة، بل كيف تحسّ، ترى، وتعيش اللحظة. الجسد الأنثوي لا يُستخدم كرمز أو غرض، بل يُستعاد كأداة سردية، كمركز للحدث، وكعدسة تُرى بها الكارثة والنجاة معًا.
في هذا السياق، يتحوّل The End We Start From إلى أكثر من مجرد فيلم عن الكارثة؛ إنه تأمل بصري وفلسفي في تجربة الأمومة، والأنوثة، والبقاء، من داخل عين أنثوية تُعيد تشكيل الصورة والمعنى، بكل هشاشتهما وقوتهما.
تاريخ العرض والاستقبال النقدي: بين الاحتفاء الفني وتفاعل الجمهور عُرض فيلم The End We Start From لأول مرة في إطار مهرجان تورونتو
السينمائي الدولي (TIFF) بتاريخ 7 سبتمبر 2023، ثم خرج إلى دور العرض البريطانية في ديسمبر من نفس العام، قبل أن يُتاح لجمهور أوسع عالميًا مع مطلع 2024. وقد استُقبل العمل بترحيب كبير من قبل النقاد، خاصة لما يحمله من رؤية إنسانية عميقة وطرح سينمائي مغاير، يعكس بصمة واضحة للمخرجة ماهاليا بيلو، وللكاتبة ميغان هنتر التي استند الفيلم إلى روايتها الصادرة في 2017. كما نال اهتمامًا إضافيًا بعدما كُشف عن أن النجم البريطاني بنديكت كامبرباتش شارك في إنتاجه عبر شركته “SunnyMarch”، وهو ما أضاف إلى رصيده الفني ثقلاً على مستوى الصناعة.
وقد حقق الفيلم تقييمات إيجابية على منصات النقد العالمية مثل Rotten Tomatoes، ووُصف بأنه من أبرز أفلام العام التي تقودها النساء، سواء أمام أو خلف الكاميرا. النقاد أشادوا بالمعالجة البصرية الهادئة، وبأداء جودي كومر الاستثنائي، وبالطرح المختلف الذي يسلّط الضوء على الأمومة من زاوية جديدة تمزج بين الضعف والقوة، وبين الكارثة والنجاة. في المقابل، عبّر رواد شبكات التواصل الاجتماعي عن تفاعل واسع ومتباين مع الفيلم، حيث رأى كثيرون أنه تجربة بصرية وشعورية عميقة تمسّ جوهر الأمومة في أكثر لحظاتها هشاشة، لكن آخرين أبدوا بعض الملاحظات النقدية التي انطلقت من منظورهم كمشاهدين عاديين، وليس من الزاوية النقدية المتخصصة.
من بين أكثر الملاحظات تداولًا، بطء وتيرة السرد، إذ شعر بعض المتابعين أن الفيلم يفتقر إلى الحبكة التقليدية والإيقاع التصاعدي المعتاد، ما جعله يبدو في نظرهم أقرب إلى تأمل شعري طويل منه إلى فيلم درامي بالأحداث المتلاحقة. كذلك، لاحظ البعض غياب البعد السياسي والاجتماعي في سياق الكارثة البيئية، معتبرين أن العمل كان بإمكانه الخوض أكثر في أسباب الانهيار البيئي والمجتمعي، بدل التركيز الحصري على التجربة الفردية للأم. كما أشار عدد من المتابعين إلى قلة الحوار، حيث اعتمد الفيلم بشكل أكبر على الصورة والصمت الداخلي للتعبير عن المشاعر، وهو ما رأى فيه البعض نقطة قوة تعمّق الطابع التأملي للفيلم، بينما رأى فيه آخرون عاملًا صعّب عليهم الارتباط بالشخصيات والتفاعل المباشر معها.
وفيما يتعلق بخيار حذف أسماء الشخصيات والاكتفاء بإشارات عامة، مثل “المرأة”، فقد أثار هذا التوجه جدلاً واسعًا بين مؤيد ومعارض. فقد رأى البعض في هذا الأسلوب الرمزي خيارًا ذكيًا يعمّم التجربة ويجعلها إنسانية شاملة، مما يتيح للمشاهدين رؤية أنفسهم في التجربة بدلاً من الارتباط بشخصيات معينة. بينما شعر آخرون أن غياب الأسماء والحوار أضعف من إمكانية التواصل الشخصي مع الشخصيات، وخلق مسافة وجدانية مع القصة، مما جعل من الصعب التفاعل عاطفيًا مع الأحداث والتفاصيل.
ومع ذلك، اعتبر كثيرون أن هذه السمات التي قد تبدو للوهلة الأولى تحديات، هي في الواقع ما يمنح الفيلم فرادته، لأنه اختار أن يصمت حيث يصرخ الآخرون، وأن يقترب من التفاصيل الحميمة — كاهتزاز يد، أو دمعة أم، أو صفحة كتاب مبتلة — بدلًا من الانغماس في الدراما الصاخبة. هذا الأسلوب جعل من The End We Start From تجربة أقرب إلى قصيدة بصرية عن الولادة وسط الموت، والأمومة كقوة خفية في قلب الانهيار.
: The End We Start From ليس مجرد عنوان لفيلم، بل يمثل منظورًا مختلفًا لفهم معنى النهايات والبدايات. في خضم كارثة بيئية واجتماعية، لا يطرح الفيلم حلولًا مباشرة، بل يقدّم تجربة إنسانية عميقة تؤكد أن القدرة على البدء من جديد ليست حكرًا على الأبطال الخارقين، بل على الأمهات، في تفاصيلهن اليومية، وفي صمودهن الصامت. الفيلم يقدّم الأمومة كقوة دافعة للحياة، كقرار واعٍ بالمضي قدمًا رغم الخوف والانهيار. لا يعتمد على الحوار المكثف أو الدراما التقليدية، بل يراهن على الصورة، والإحساس، واللحظات الصامتة التي تُحرك المشاهد من الداخل.
في النهاية، يُصبح هذا العمل تحية سينمائية للأمهات، لا بالشعارات، بل بمشاهد قوية وبسيطة في آن واحد: امرأة تمشي وسط الفوضى، تحمل طفلها، وتواصل الطريق. مشهد واحد يكفي ليختصر معنى الصمود والبدء من جديد.