بين رمال تونس المتقدة وأمواج المتوسط المضطربة، اندفعت قافلة الصمود وسفينة “مادلين” كنبضات مقاومة في وجه حصار بلغ عامه الثامن عشر، حصارٌ لا يُحاصر الأرض فقط، بل يُحاصر الحياة، ويُخنق الكرامة، ويختبر صمت الإنسانية بأبشع الطرق.
في زمن عربي يطغى عليه الركود السياسي، والتطبيع الصامت، والحياد المموّه، انطلقت من ضفّتي المتوسط مبادرتان هزّتا المعادلة: “قافلة الصمود” التي شقّت طريقها من تونس باتجاه معبر رفح، وسفينة “مادلين” التي أبحرت من ميناء كاتانيا الإيطالي باتجاه سواحل غزّة. لا يجمع بين القافلتين مجرد التضامن، بل رؤية سياسية واضحة: أن الشعوب ترفض الاختناق الأخلاقي وأن مقاومة الحصار أصبحت شأنًا أمميًا.
قافلة الصمود: من تونس إلى رفح… قافلة كرامة تتحدى الخرائط
لم تكن “قافلة الصمود” مجرّد رتل من الحافلات، بل إعلان تمرّد مدني في وجه صمت عربي ودولي بات أكثر فظاعة من الحصار نفسه. يوم 9 يونيو 2025، انطلقت من قلب العاصمة التونسية، حيث حمل أكثر من 1,500 ناشط وناشطة من تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا، وليبيا وجع غزة على أكتافهم، وهتفوا من الشوارع العربية: “ارفعوا الحصار… كفى تواطؤًا”.
تعبر القافلة الصحارى والحدود، غير آبهة بالعوائق الإدارية ولا الحسابات الدبلوماسية، في طريقها الطويل نحو معبر رفح. لا تحمل قناطير من المساعدات، ولا تقايض بأوراق رسمية، لكنها تحمل ما هو أثقل من المواد: تحمل كرامة الشعوب، وإرادة الحياة، وصوتًا حيًّا يقول إن التضامن لا يُقاس بالطن، بل بالضمير، وأن غزة ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، بل وجدان عربي مشترك.
هي قافلة لم تنتظر تصريحًا من أحد، لأنها تستمد شرعيتها من دماء الضحايا، ومن وجع الأمهات، ومن وجوه الأطفال التي تتقاسم الحصار والحرمان والموت كل صباح. إنها قافلة أمل لا يطلب الإذن من الجغرافيا، بل يفرض على التاريخ أن يسجّل: الشعوب لا تنسى، ولا تسكت، ولا تخون.
“مادلين”: قارب صغير يحرّك ضميرًا عالميًا
في التوقيت نفسه تقريبًا، أبحرت من إيطاليا سفينة “مادلين” – صغيرة الحجم، لكنها مشحونة بالمعنى والتحدي. على متنها، لم يكن هناك سلاح ولا جيوش، بل رموز للضمير العالمي: غريتا ثونبرغ، الناشطة البيئية الأشهر عالميًا، وعضوة البرلمان الأوروبي ريما حسن، وصحفيون وحقوقيون من جنسيات متعددة. أما حمولتها، فلم تتجاوز بعض الأجهزة لتحلية المياه، أطرافًا صناعية لأطفال مبتوري الأمل في غزة، وقليلًا من الأدوية الأساسية. ومع ذلك، تسببت “مادلين” في قلق سياسي وعسكري لإسرائيل، يفوق بكثير ما تسببه الوفود الدبلوماسية أو بيانات الإدانة. كانت تهدد السردية الرسمية، وتشقّ جدار الصمت المفروض على غزة، وتعلن بوضوح: “لسنا صامتين، نحن شهود، ونحن نقاوم”.
في الساعات الأولى من صباح 9 يونيو 2025، وتحديدًا قرابة الساعة 01:00 صباحًا بتوقيت غرينتش، نفّذت قوات كوماندوز من البحرية الإسرائيلية عملية عسكرية منظمة لاعتراض سفينة “مادلين” في المياه الدولية، على بُعد أكثر من 60 ميلاً بحريًا من ساحل غزة. تمّ الصعود إلى السفينة بشكل مفاجئ ومنهجي: بدأت العملية باستخدام وسائل تشويش إلكتروني لتعطيل الاتصالات، تبعها اقتحام تدريجي لم يشهد مقاومة تُذكر من الناشطين.
جرى سحب السفينة قسرًا نحو ميناء أشدود تحت إجراءات أمنية مشددة استمرت لأكثر من 18 ساعة. عند وصولهم مساء اليوم ذاته، خضع المحتجزون لفحوصات طبية وفق ما أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية، ثم نُقلوا إلى مركز توقيف في الرملة تمهيدًا لترحيلهم. وأكدت منظمة “عدالة” الحقوقية أن المجموعة بقيت رهن الاحتجاز الأولي في منشأة أمنية، في انتظار فتح ملف التحقيق القضائي بحقهم. في 10 يونيو، غادرت ثونبرغ البلاد عبر فرنسا إلى السويد، فيما عبّرت ريما حسن وآخرون عن نيتهم الطعن قانونيًا في إجراءات الترحيل.
وصف حقوقيون ومحامون العملية بأنها “قرصنة بحرية مكتملة الأركان” وانتهاك جسيم للقانون الدولي ولمبدأ حرية الملاحة، بل واعتداء مباشر على من تبقّى من الأصوات الحرة التي تحاول كسر الحصار وكشف جرائمه أمام الرأي العام العالمي.
غزّة: مختبر الانهيار الإنساني المستمر
منذ عام 2007، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة تحت حصار خانق تفرضه إسرائيل برًا وبحرًا وجوًا، في انتهاك واضح للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقوبات الجماعية. أكثر من 17 عامًا من الحصار حولت القطاع إلى منطقة منكوبة: نظام صحي شبه منهار.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي الواسع في أكتوبر 2023، تصاعدت وتيرة القتل والتدمير إلى مستويات غير مسبوقة. أكثر من 54,000 شهيد، بينهم نحو 18,000 طفل، وأكثر من 123,000 جريح، بينهم آلاف مبتوري الأطراف. المدارس والجامعات شبه مدمرة، والمستشفيات غير قادرة على العمل، ومخيمات النزوح تحوّلت إلى بؤر للمجاعة والأوبئة.
هذا ليس نزاعًا عسكريًا كما تروّج له بعض وسائل الإعلام الغربية، بل عملية إبادة ممنهجة تجري أمام أعين العالم، بصمته القاتل وتواطئه المستتر.
بعيدًا عن العواطف، تحمل “مادلين” و”قافلة الصمود” رسالة سياسية واضحة: أن الحصار على غزة ليس مجرد قضية فلسطينية، بل فشل للنظام الدولي في حماية المدنيين. وأن التضامن الشعبي، إذا ما تراكم، قادر على تحريك الرأي العام الدولي، وفرض الحرج الأخلاقي على الحكومات المتواطئة أو الصامتة.
بل أكثر من ذلك، فإن هذه التحركات تؤسس لتقليد جديد: أن كسر الحصار لم يعد حكرًا على الحكومات والمنظمات الدولية، بل مهمة كل من يمتلك ضميرًا حيًا، وجواز سفر، وقدرة على الحركة. هذه مبادرات لا تطلب الإذن من أحد، لأنها تستمد شرعيتها من القانون الدولي الإنساني، ومن بديهيات الكرامة الإنسانية.
لم تكن “مادلين” بحاجة إلى ميناء لكي تصل. كانت وجهتها الحقيقية هي الضمير العالمي، وقد وصلت إليه. ولم تكن قافلة الصمود بحاجة إلى معبر مفتوح، لأنها اخترقت الحصار المعنوي قبل الجغرافي.
غزة، مرة أخرى، تحوّلت إلى مرآة للعالم. بعضهم رآها واختار أن يواجه، وبعضهم أدار ظهره. لكن القافلتين قالتا ما يكفي: أن الشعوب قادرة على استعادة الكلمة، حين تسقطها الحكومات.